الأنباط -
سليم النّجّاار
أكانت الدنيا صغيرة... أم كانت الدنيا كبيرة!
فهي بالنسبة لي دنيا غريبة... لا قدرت أن أفهمها وأنا صغير، ولا فهمتها عندما كبرت.
وضعت الأوراق جانباً، بعدما تزاوجت مع أفكاري بشكل كاثوليكي، وبعدما أصابتني بدوار قاسٍ.
كنت بحاجة لزيارة سهير التّلّ يوم أمس ٢٣/ ١١/ ٢٠٢٤، في بيتها في الشميساني لأخرج من الحالة التي تركتني فيها أوراقي وأفكاري اللعينة.
وكيف لي أن أتخلّص من هذه الأوراق. التي صارت أشبه باللعنة في حياتي! فما عدت مشدوداً لسهير، ولا عدت أرى غيرها فيما ذكرت بعد ذكرياتها.
ذهبت إلى لمطبخ لتلبية طلبي عمل قهوة بدون سكر، ولها نسكافي مع حليب.
قالت أمي: طاردوها كذئاب مسعورة. كمن أحست بلسعة: ماذا ستفعل بها ذكرياتها عندما أنهت الثانوية العامّة وذهبت ليوغسلافيا لإتمام تعليمها الجامعي، بعد وعدها حزب الفقراء - الحزب الشيوعي الأردني بتوفير منحة لها، انتظرت طويلاً، ولم تأتِ أوراق الترشيح، كأنّ أوراقها دار مهجورة، في بداية الأمر لم تجرؤ على السؤال، ومع مرور الوقت اكتشفت أنّها دخلت عالماً لا تعرفه. نهضت أمي؛ وقبل أن تصل إلى خزنتها لتناول باكيت دخان، نفثتْ: (ما علاقتنا نحن بهذه الذكريات المهجورة... الآن أيامنا تجاورها، يظنوننا حرَساً عليها؟ ذكريات الشؤم هذه).
شعرت كمن انتُشل من البئر، قبل ارتطامه بقعره، فها هي تُبدي رغبة في الحديث عن الدار المجهورة- أي ذكرياتها.
نظرت إليّ نظرة طويلة وبعيدة، تخترقني ثم ّردّت نظرتها إلى عينيّ، وقالت: "اكتشفت أنّ الحزب كذب عليّ ولم يقدِّم أوراقي للحصول على المنحة الجامعية، وقتها لم أعرف السبب، وطلب والدي رحمه الله العودة إلى عمّان، لبّيْت نداء والدي، وصلت مطار عمّان، وتمّ حجز جواز سفري، كان هذا السلوك قبل الانفتاح الديمقراطي. وانتهاء الأحكام العرفية في العام ١٩٨٩" .
صمتت، هتفت: " أكملي." قالت لي: "تحتمل ما سأقول!"
كنت أغصّ في داخلي.. فقلت: "جربيني"
تمهّلت قليلاً، ثمّ أكملْت: "كنت في الكويت مع زوجي محمد كعوش نعمل في الكويت في الصحافة، وبالمناسبة انا تتلمذت على يده هذا الأستاذ الكبير، وتعلّمت منه فنون الصحافة، وقتها كان هناك عُرف في الكويت أنْ يتمّ خصم ٥% من راتب أي موظف فلسطيني، وعندما سألتني إدارة الجريدة توافقين على هذا الخصم، على اعتبار أنّي بنت التل، تعجّبت من هذا السؤال الغريب، ووافقت على الخصم رغم مرارة السؤال، المفاجأة استنكر أهل زوجي لماذا توافقين على الخصم؟ وقتها عرفت وتأكدت أن فلسطين ليست ملكية خاصة".
ما عدت قادراً على المتابعة، وأنقذني منها، ابتسامتها ابتسامة الأم التي اعتقدت أنّها أثقلت عليّ.
أما هي فما انقطعت عن الخروج إلى السؤال وبدون مقدِّمات متى تنتهي حرب الإبادة على غزّة، لم أعد أحتمل مشاهدة هذه الجرائم التي تُرتكب في حقّ أهلنا في غزّة، قرّرت ألّا أكون شاهدة زور وأشاهد الفضائيات، وقاطعتها؟
كانت كلماتي مكتظّة، والخطّ متعثر، كأنّ يداً مرتجفة، تساءلتُ هي التي كتبت أم أنا؟
فكّرت، إن أخرجت ما في داخلي إلى الورق قد أرتاح! فبدأت كتابة هذه الكلمات، يوم أغترب في الزّمن، لا أعرف من الزمن كم مرّ قبل أن تخبرني أنّ سبب عدم حصولها على المنحة الشيوعية، موقفها من الحزب إذ كانت مع الدكتور يعقوب زيادين، الأمر الذي فهم أنّها، ضد التيار الذي أخذ اسم "الكادر الليني"، والصورة لم تكن هكذا، إلّا أنّ ثقافتنا السياسية السائدة ليومنا هذا أما تكون معي أو ضدي!
كلّ ما علمته، ينتهي عند حافّة الكلمات الأخيرة "أنت عكّازة سهير التلّ" وهذا الوصف له قصّة، وليس الآن الوقت المناسب لذكر تفاصيلها.
ليس لعكّازتنا إلاّ درب واحدة... تُحضر القادمين إليها، وتنأى بالذاهبين منها...