غزة تستحق مراجعة تاريخها
د. أيوب أبودية
في ضوء ما يحدث اليوم في غزة والبطولات التي نشهدها في مقاومة عدو غاشم لا يعرف الرحمة ولا الانسانية، لا بد من مراجعة بعض تاريخ غزة، حيث يمتد تاريخ الصراع في قطاع غزة لأكثر من 3000 عام، ويتميز بنسيج معقد من النزاعات السياسية والدينية والإقليمية والاقتصادية. ستقدم هذه المقالة نظرة عامة مختصرة على الأحداث الرئيسية، مع تسليط الضوء على الرحلة المضطربة التي مرت بها المنطقة عبر العصور المختلفة.
تعود جذور الصراع في غزة إلى العصور القديمة عندما كانت المنطقة مأهولة بحضارات مختلفة، بما في ذلك المصريون والفلسطينيون والإسرائيليون والفرس والاشوريون. وشهدت غزة العديد من المعارك والتحولات في السلطة المهيمنة حيث تنافست هذه الشعوب القديمة من أجل السيطرة على هذه الرقعة من شرقي البحر الأبيض المتوسط. وتروي حكايات الكتاب المقدس صراعات عديدة من أجل الهيمنة، حيث شكلت غزة في كثير من الأحيان ساحة معركة استراتيجية لكافة أطراف النزاع.
خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية قبل الاسلام، ظلت غزة مركزًا تجاريًا وعسكريًا محوريًا. إذ قدّم صعود المسيحية دينامية جديدة، مما أدى إلى صراعات بين المجتمعات المسيحية الناشئة من خلال الامبراطورية الرومانية والسكان الوثنيين واليهود الموجودين من حولها. وهكذا جذبت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وخاصة كونها على الطريق الى مصر الفرعونية، انتباه الإمبراطوريات المتعاقبة، مما ساهم في حالة عدم الاستقرار الدائمة فيها.
جلب الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الإسلام إلى غزة، مما أدى إلى تحول في المشهد الثقافي والديني. وشهدت المنطقة طوال فترة الخلافة الإسلامية فترات من الاستقرار النسبي، لكنها واجهت أيضًا صراعات داخلية. كما زادت حروب الفرنجة (الحروب الصليبية) من تعقيد الأمور، حيث سعت القوات الأوروبية للسيطرة على الأراضي المقدسة، بما في ذلك غزة.
شهد حكم الإمبراطورية العثمانية، الذي امتد لأربعة قرون، هدوءًا نسبيًا في غزة. ومع ذلك، عادت التوترات إلى الظهور خلال تراجع نفوذ الإمبراطورية العثمانية، بالتزامن مع اكتساب الحركات القومية المتنافسة زخمًا. وقد أضاف ظهور الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر تعقيدات جديدة إلى تعقيدات المنطقة الأصيلة، وخاصة مع تزايد الهجرة اليهودية، مما أدى إلى تفاقم توترات المهاجرين مع السكان العرب المحليين.
كان الانتداب البريطاني على فلسطين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بمثابة منعطف حاسم في تاريخ غزة. إذ أشعلت خطة التقسيم التي طرحتها الأمم المتحدة في عام 1947 الأعمال العدائية، مما أدى إلى الحرب العربية الإسرائيلية في الفترة 1948-1949. أصبحت غزة، التي كانت في البداية تحت السيطرة المصرية، نقطة محورية للصراع. وقد تركت الهدنة التي أعقبت ذلك غزة في وضع محفوف بالمخاطر، حيث استقر العديد من اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة في مخيمات ما زالت حتى يومنا هذا.
وفيما أدت حرب الأيام الستة عام 1967 إلى احتلال إسرائيل لقطاع غزة، كان هذا بمثابة بداية صراع طويل الأمد وعميق الجذور. شهدت الانتفاضة الأولى عام 1987 احتجاجات فلسطينية واسعة النطاق ضد حكم الكيان الإسرائيلي، مما مهد الطريق لحركات المقاومة بكافة أطيافها. كما أثارت اتفاقية أوسلو في عام 1993 الآمال لفترة وجيزة في التوصل إلى حل سلمي، لكن الأحداث اللاحقة وسياسات الكيان الصهيوني المتطرفة والتوسعية، بما في ذلك الانتفاضة الثانية، بددت تلك التطلعات، فانسحبت اسرائيل من غزة عام 2005.
أضاف انتصار حماس في الانتخابات عام 2006 وهيمنتها اللاحقة على غزة في عام 2007 بعداً جديداً للصراع، إذ فرض الكيان الصهيوني، إلى جانب مصر، حصارًا على القطاع، مما أدى إلى تقييد شديد لحركة البضائع والأشخاص. وقد أدت هذه العزلة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث ما فتىء سكان غزة يواجهون ظروفاً معيشية مزرية، أدت في القرن الحادي والعشرين إلى تفجر صراعات عسكرية متعددة بين الكيان الإسرائيلي وحماس، حيث أدى كل صراع إلى خسائر كبيرة في الأرواح وأضرار عظيمة في البنية التحتية.
وقد جذبت الصراعات التي اندلعت في الأعوام 2008-2009، 2012، 2014، 2019، 2021، 2022، 2023 الاهتمام الدولي، وأثارت مناقشات حول التناسب في الرد الصهيوني وتأثير ذلك على السكان المدنيين. ولكن كانت الجهود المبذولة للتوسط في وقف إطلاق النار وإرساء سلام دائم بعيدة المنال، مما ساهم في إدامة دائرة العنف الذي ما زال مستمرا حتى يومنا هذا.
في الختام، فإن تاريخ الحرب على غزة هو قصة متعددة الأوجه من الصراعات الدولية والاقليمية القديمة والمعاصرة، والطموحات الإمبريالية في المنطقة، والديناميات الدينية، والتعقيدات الجيوسياسية، وحروب حول مصادر الطاقة والمياه، والممرات الاقليمية، وغيرها. لذلك فإن التحديات التي يواجهها سكان غزة عميقة الجذور، زادت تعقيدا بعداء منظمة التحرير لها وتآمرها على شعبها في الضفة الغربية. وعليه، إذ يتطلب إيجاد حل مستدام لغزة فهماً شاملاً للمظالم التاريخية، والالتزام بالحوار والدبلوماسية والقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، للوصول إلى سلام عادل وشامل ومستدام.