الأنباط -
المقاطعـةُ الاقتصاديـة ... الثقافةُ الغائبـة .. والسّلاح الفعّال
د. غــازي إبراهيم العسّــاف
أستاذ الاقتصاد المشارك – الجامعـة الأردنيـة
كثيراً ما تلفتُ أنظارنا الأزمات المُختلفة سواءً السياسية أو الاقتصادية أو البيئية أو حتى الصّحية منها إلى أنماط استهلاكية اعتدنا على مدار عقودٍ من الزمن على العيش في قالبها بشراء مجموعات كبيرة من السلع والخدمات في أسواقنا التجارية، لا بل أصبحت جزءًا من بديهيات هذه الأنماط الاستهلاكية ومكوّناً أساسياً من مكونات حياتنا اليومية التي نعتقد -أو الأصح اعتقدنا أننا نعتقد – بأننا لا يمكن أن نعيش بأي شكلٍ من الأشكال بدونها. هذا تماماً نتاجُ ما عشناه ونعيشه من العواقب المُقيتة للرأسمالية والتي جعلت منّا مستهلكين شَرِهين لكلِّ ما هو مستورد بالدرجة الأولى وللماركات والعلامات التجارية اللامعة التي سيطرت على التصوّرات الاستهلاكية في أذهاننا قبل عقولنا. فالعقلانية في الاستهلاك التي تُشكّل أولى مبادئ نظريات سلوك المستهلك في علم الاقتصاد غابت عن أغلب سلوكياتنا وأنماطنا الاستهلاكية الحالية في زمن الرأسمالية.
إنّ ما نعيشُه اليوم من نتاجٍ عميق للرأسمالية جعلنا نشعر بأننا مُحاطين من كلّ جانب في حياتنا بهذه الرأسمالية التي سيطرت على طعامنا وشرابنا ولباسنا وكل مقّومات حياتنا الضرورية والترفيهيّة منها، الأمر الذي أوصل العديد من مجتمعاتنا إلى حدود الإدمان لا بل والدّفاع عنها في بعض الأحيان. بالرغم من كل هذه النتاجات التي نعيش اليوم إلا أنّ بصيص الأمل في تغيير ما نحن غارقون به اليوم بات قريباً، فالحرب الشرسة على أخواننا في غزّة كشفت القناع عن كثير من الشركات العالمية والتي دخلت بعباءة الرأسمالية والعولمة - العالم كقرية صغير- أسواقنا وبيوتنا، ومن هنا إنكشف الوجه البائس والنوايا القذرة لكل هذه الشركات لتكون صفعة في وجه الدول التي ركبت موجة العالمية والإنفتاح على العالم، فكل هذه الأعمال والشركات العابرة للقارات ما هي إلا أدوات لمزيد من الإذلال للدول النامية ولتبقى دوماً المتلقي فقط لما تُنتجه وتوّرده هذه الشركات فهي الباب الوحيد -كما أقنعتنا الرأسمالية -لتحسين مستوى رفاه تلك الدول.
اليوم نحنُ في أمسِّ الحاجةِ إلى تأصيلٍ لثقافة المقاطعة لأغلب السلع المستوردة وبخاصة تلك القادمة من الشركات التي تدعم الكيان الصهيوني، فالمقاطعة في مجتمعاتنا كانت ولازالت حدث لحظي نعيشه بنظامِ الفزعة المؤقتة، فاليوم نريدها أن تكون صدمة نُحدثها لأنفسنا أولاً وكل مجتمعاتنا نتحررّ بها من عباءة هذه الشركات ومنتجاتها. إنّ المطلوب في ظل هذه الظروف التفكير بشكل جدّي ومنظّم من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني أولاً بسياسة إحلال المستوردات التي غابت عن أغلب تخطيطنا الاقتصادي، فكل تجاربنا السابقة أثبتت بأنّنا نحتاجُ إحلالاً للمستوردات بدلاً من التركيز فقط على سياسات دعم الصادرات والانفتاح على العالم الخارجي، فلننظر اليوم إلى كل هذا الزخم الإعلامي الشعبي في تقديم صورة جميلة للمنتجات الوطنية كسلع بديلة للمنتجات المستوردة. إنّ كل هذه الجهود تحتاج إلى مزيد من الدعم الحكومي الى جانب الشعبي من خلال استمرار المقاطعة وجعلها جزءاً أصيلاً من ثقافتنا التي يمكن وبسهولة – وهذا ما أثبتته الظروف الراهنة – أن يُزرع وبشكلٍ مستمر في عقول وأذهان أطفالنا والأجيال القادمة.
نملكُ اليوم فرصةً ثمينةً وسلاحاً فعّالاً للإستمرار في إجبار وتطويع أنفُسنا على توسيع قاعدة المقاطعة لكلّ ما هو مستورد وبغيض ، ففُرصتنا اليوم كبيرة لأن نُخلي الساحة لمنتجاتنا الوطنية لتتصدّر وتقف على أرجلها من جديد وأن تصبح حدود أسواقها إقليمية وعالمية على نحو سريع. فلنتذكّر اليوم بأنّ أخواننا في غزّة الأبية لا يجدون أدنى مقوّمات الحياة من السلع والخدمات وتجدهم قادرون على الثبات رغم كل النقص الحاصل في هذه السلع، في المقابل نعيش نحن وأمامنا خيارات وخيارات لسلعٍ كثيرة وأرففٍ ممتلئة – ولله الحمد – فليكن سلاحنا معهم المقاطعة والبحث الدائم عن السلع المحلية البديلة والإصرار على تغيير أنماطنا الاستهلاكية، فسلاحُ المقاطعة فعّال وأنما يحتاج فقط إلى مزيد من الوقت لنرى ونلمس الآثار الكارثية على تلك الشركات والدول الشريكة في الإجرام.