مقالات مختارة

علي الزعتري يكتب:عُنْفُ ماضٍ في حاضِرٍ مقيت و مستقبلٍ بئيس

{clean_title}
الأنباط -

عُنْفُ ماضٍ في حاضِرٍ مقيت و مستقبلٍ بئيس

عندما تسكنْ و تتأملْ هذا الحاضر العربي البائس تنزعُ الذاكرة لاستردادِ أحداثٍ مضتُ بحياتنا تشيِ بما اليوم نتأمل، كأنها كانت نبؤاتٌ لم ندركها وقت حدوثها ثم هي اليوم تقول أنها كانت حقيقةً طويناها دون مزيدِ فهم. هذه بعضها.

نمتْ بيني و بين الدكتور مأمون أبو خضر في ثمانينات القرن الماضي علاقةَ احترام و وُدْ. كان يرأس اتحاداً عربياً لمنتجي الأسمدة الكيماوية و بحكمِ عملي في الأمم المتحدة كنا نلتقي ضمن مفهوم التنمية الصناعية. في الكويت أولاً، ثم في الخرطوم. دعوتهُ للعشاء بالنادي السوري ذات ليلةٍ دافئةٍ من ليالي الخرطوم تتنفس عبرها بين ساعةٍ و ساعة نسماتٌ نيليةٌ رطبةٌ. ثم قُدْتُهُ ومعي زوجتي و طفلينا في شارع النيل نحو فندقه المحاذي لأم درمان. وشارعُ النيل هذا يمرُ بجانبِ القصر الجمهوري تماماً. مستمتعينَ بالحديث و مطمأنينَ للطريق رأيتُ جِذْعَ شجرةٍ يتوسط الشارع قبيل بناء القصر القديم بأمتار فتوقفت و أردتُ تجاوزهُ ظانَّاً أنه سقط من إهمالٍ عندما قَفَزَ أمامنا من أعلى شجرةٍ واقفة يمين الشارع الجندي الحارس يحملُ بندقيته الرشاشة و يسحب أقسامها بنفس الوقت الذي لامست رجليه الأرض صارخاً بنا أن نتوقف. أسعفنا الحظ أننا مع رعبنا أفهمناهُ بجهلنا أننا لم نعلم بغلق الشارع بعد التاسعة ليلاً بجذعِ شجرة و أننا مدنيين لا نقصدُ سوءً و بعدها سمح لنا الجندي بالاستدارة للبحثِ عن طريقٍ بديل. بوقتٍ، و بمكانٍ، قريبينِ من القيادة العامة للجيش لم يحالف الحظ دبلوماسياً عَبَرَ حاجزاً دون قصدٍ في ظلامٍ دامسٍ فنالت منه رصاصاتُ حرسٍ للقيادةِ فقتلته. أن تكونَ حسنَ النية في المكان الخطأ هي لحظةُ حظ فإمَّا أنْ تستمر حياتك او تنتهي و لا عزاءَ للمخطئين. منذ استقلالهِ لم يرَ السودان إلا سريعَ الضغط علي الزنادِ و صيحاتِ الانتصار و شهقات القتلى و المكلومين التي كانت مؤشراتٌ للقفز نحو الدمار.

كانت هذه الحادثة بُعيْدَ الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الصادق المهدي وأتت بالبشير الذي مع الأيام صارَ السودانيون يطلقون علي أنصارهِ اسم "الكيزان" كنايةً عن الإسلاميين الذين بعهدهِ تسيدوا السودان و أُثيرت عليهم و من حولهم قصص الفساد و العنف. منذُ عام ١٩٨٩ انتقلَ السودانُ بقيادة العسكريين من حُلُمِ انتصارٍ لكوابيس انهزام. معركتهم كانت تُقادُ و تُحاربُ بقوافلِ الشهداء و الشعارات الدينية ضد المتمردين بجنوب السودان ثم الولايات الجنوبية لكردفان و النيل الأزرق ثم في دارفور. تحالفاتهم كانت مريبةً لمن حولهم و عبر البحار فهم احتضنوا المطلوب الأول في العالم، كارلوس راميريز، ثم أسامة بن لادن و الحركة الإسلامية التي استولدت داعش و أخواتها. ثم لُوِيَتْ يدهم فسُلِّمَ كارلوس لفرنسا و طُرِدَ بن لادن. و طوردت حركاتٌ إسلاميةٌ أُخرى مثل حماس لتترك السودان و ضُرِبتْ طرق إمدادها التي تعهد لها السودان بالتزويد و الحماية من جهاتٍ مجهولة. ثم ازدادت الضغوط الدولية و ازداد الدِوارَ السوداني الذي أفرزَ الجنجويد و انفصال جنوب السودان و الانحدار الاقتصادي و القرارات السياسية غير المفهومة للتقرب و التباعد من دولَ و محاورَ في مُدَدٍ وجيزة باتت بمجموعها إشارةً يائسةً أن النظام يلتقطُ ما أمكن من القش السياسي ليتفادى الغرق الذي أودى به في النهاية و لكنهُ لم يودِ بالعنف الكامن الذي انفجر بين حلفاءِ سلاحٍ اختلطَ فيهِ الشرعي بالهجينِ فتقاتلا ليسودَ أحدهما.

لم تكن ليبيا قبل السودان في عهد القذافي معفيةً من العنفِ الذي مَكَّنَ العقيد من بسطِ يده علي البلاد بمنطقٍ شابتهُ حكمةٌ و هذيانٌ رافقاهُ حتى النهاية. في أحدِ أيام الاحتفال بالجلاء البريطاني جلستُ مع الهيئةِ الدبلوماسية لساعاتٍ ننتظر العقيد الذي سيلقي خطاباً. تمركزت رجالاتُ حراساتهِ أمامنا، من وراءه، و أوامرهم أن لا ينظروا لهُ بل علينا. واحدٌ منهم أمامنا جالَ برأسهِ لحظةً نحو العقيد الذي كان يخطب وفي ثوانٍ كان رئيس الحرس، الزاطمة ذو الشهرةِ الدموية، يسحبُ سلاحهُ ليردي الحارس الذي خالف الأمر. لم يفعل، لكنهُ أعطانا المثالَ علي السرعةِ التي قد تقتل في سبيل العقيد. و انحدرت ليبيا لصراعٍ دمويٍ بين الأخوة لا تزالُ تئِّنُ منه لليوم جذورهُ في الصراعِ علي شرعيةٍ و سلطة و عُنفٌ مخيف.

الحزام و البسطار و الرصاص دلائلٌ علي عنف الدول العربية و سوء حكمها. دائرةٌ دواماتُ العنفِ علناً و بالخفاء بما يكفي لِلَجمِ معترضٍ و داعية. يُقالُ أنهُ في زمان الغزو التتري المغولي كان السكان العرب يتجمدون خوفاً من فارسٍ مغوليٍ واحدٍ يتناولهم بالقتل بالتناوب دون مقاومة. العرب اليوم يتجمدونَ خوفاً من نطق كلمة خوفاً من حكوماتهم، و حكوماتهم نفسها تتجمد خوفاً ممن هم أقوى و أشرس منها داخل البلاد وخارجها. ممارسةَ العنف والتهديد به و الترويجَ للمراقبةِ التي تقتربُ من الخيال العلمي للسكنات و الكلمات تحولنا لشعوبَ مجترة تنتظر وقتين: الذهاب للمرعى والانقياد للمسلخ.

هذا العُنف بيننا علي بعضنا و هذا الجُبنُ فينا علي من هو ضدَّنا و هذا التجمد المخيف لوعينا لما ينهضُ بالأمم هل هو صنيعُنا أم أنه يُصنعُ لنا أم هو الاثنين في آنٍ واحد؟ لا شكَّ أننا نعيش في عقولنا مآثرٌ و انتصارات و فتنةٌ و انكسارات و زخمَ حضارات و قيعانُ فوضويات و غدرٌ و مكرٌ و مؤامرات. و عنفٌ بكل الزوايا للبقاء أم للسيادة و لكنه عنفٌ في غير مكانهِ و زمانهِ و أهدافه. عنفٌ يسافر عبر المآثر و الانكسارات لأنه هو عنف بناء الزوال و التشقق و التكسير بدءً من النفس و للأوطان. ففي أعماقِ أنفسنا ظلامٌ و بؤسٌ و ظُلمٌ. و كما نكون تكون بلادنا و حكوماتنا و يكون حاضرنا و مستقبلٌنا، رعياً و ْسلخاً. فيا بؤسَ العرب.

علي الزعتري

الأردن

مايو ٢٠٢٣

تابعو الأنباط على google news
 
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الأنباط © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الأنباط )