كتّاب الأنباط

علي الزعتري يكتب.. الحضن العربي

{clean_title}
الأنباط -
تُثيرُ في مخيلتي كلما ذُكِرَتْ هذه التسمية قدرةَ العرب علي اختراع التعابير الهلامية. في أيامنا هذه الحضن العربي يمكن تَصَّوُرَهْ بوابةً لها أقفالٌ ثقيلة في سورٍ مهترئٍ يغلقها حُرَّاسٌ أُمِيَّونْ، أو يفتحونها، دون تفسيرٍ واضحٍ. بالأوامر أو المزاج أم المحبة و الكراهية و غيرها من أعذار. المُضحِكُ، لكي لا نغوصَ في التشبيه، هو عودة سوريا للحضن العربي أو عودة الحضن العربي لسوريا لكن مع بقاء المُتغيرات ثابتةً في المسألةِ السورية. لماذا وكيف ومتى؟ تحتاج تفسيراً. و لن تجده!

سوريا حربٌ أهليةٌ لا تزال، و إن كمدت الجمرات، لكنها لم تنطفئ. محافظاتٌ بمساحة دول هي خارج السيطرة الحكومية. إحتلالٌ أمريكي غربي و تركي لا يحظى بالتأكيد بموافقة الحكومة. و تواجدٌ واسعٌ و مؤثر برغبة الحكومة وترحيبها لروسيا و إيران. فقرٌ يطالُ معظم السوريين و شظف عيشٍ يومي. استباحةٌ صهيونيةٌ متواترة. معوناتٌ لا تسد الرمق و منعٌ لإعادة الإعمار. النفط و الأقماحُ تُسرق و تُهَرَّب جهاراً نهاراً للجوار. داعشُ تضرب بلسعاتٍ حارقةٍ لكن فقط السوريين. الأمريكيون يعلنون أنهم في حربٍ ضد الإرهاب و بين الفينة و الثانية يقومون بعملٍ يشبه ما تُرَّوِجُ له هوليوود في أفلامها عن القوات و القدرات الخاصة الأمريكية. "إسرائيل" تصطاد أهدافها دون رد. و السوريون في الداخل الحكومي شاكون متململون من سوء أو تخبط القراراتِ الحكومية بشأن معيشتهم وعلنية الفساد المستشري. و السوريون في الخارج.  المعارضون باتوا وَبَراً في يومٍ عاصفٍ يطيرُ بكل اتجاه بلا أي أثر في الحالةِ السورية سوى أنها معارضةٌ و تأمل من أحدٍ ما أن يعطيها وزناً،  أو مواطنين تقودهم سلطاتٌ ملونةُ الانتماء و هم تحت سيطرتها. الزلزال شَدَّ رِحال المزيد من العرب لدمشق و بعضهم أرادها ظاهرياً زيارةً للتعاطف فتلاها مباشرةً من دمشق بزيارةٍ لأنقرة كأنه يقول إنما أنا هنا و هناك إنسانياً و ليس ممثلاً سياسياً. و جميعنا يعرف أن السياسة مصالح.

الحالة السورية لا تحتمل الضبابية العربية. المصلحة العربية هي في ترصيص الصف العربي. لكن ماذا يريدُ الكل من الكلِ في هذه الحالة؟ لنترك روسيا خارج المجموعة و لنتكلم عن مؤشريٌنِ مهمينِ لو تحركا باتجاه دمشق لربما كان في هذا الدخان نار. أمين عام جامعة الدول العربية وأمين عام الأمم المتحدة. الأول لم يزُرْ دمشق للتعزية و إبداء التعاطف و هذا دليلٌ أن الحضن العربي السياسي لا يزال بارداً. و الثاني لا يزورها،  و أبتعثَ عقب الزلزال نائبه لتنسيق الشؤون الإنسانية لدمشق و هي زيارةٌ شبه دورية لمن هو بمنصبه ليس لها هدفٌ سياسي و إن كان للنائب رأيٌّ يُستمعُ له بدوائر الأمم المتحدة و العواصم المانحة حول سوريا عموماً. غياب الأمينين العامين يقول أن الحالة السورية لا تشهدُ انفراجاً حقيقياً لأنهما لن يتحركا دون موافقاتٍ مسبقة. بلَىٰ إذاً للمعونات الإنسانية و للزيارات المواسية و بعض الانفتاح لكن هذا لا يغير المواقف العربية خاصةً. تقريباً كل الدول العربية باستثناء دول الخليج العربي غير عُمان، أبقتْ وجوداً دبلوماسياً و قنصلياً بدمشق و بعضها كالأردن كان معبراً لدخول المعونات برعاية الأمم المتحدة لسنواتٍ بعد ٢٠١١. ليس من جديدٍ فارقٍ لذلك سوى الزلزال و علنية إعادة الاتصال.

بالمقابل، لإيران و حزب الله و مجموعاتٌ متوائمةً طائفياً معهما وجودٌ راسخٌ في سوريا علي كل المستويات. من دونهم و التدخل الروسي لما تمكنت الدولة السورية من استعادة أجزاء من سوريا احتلتها المعارضة. بعض العرب المؤثرين احتضن المعارضة تمويلاً و تسليحاً و استضافةً بعواصمه. اليوم لا تملك المعارضة من وجودٍ علي الأرض إلا بالظلال التركية شمالاً و بالاحتلال الأمريكي و كردياً و في التنف. و تعيش المعارضة علي الأغلب بتمويلٍ يأتيهاً من قِلَّةٍ عربيةٍ و من مخصصات لا يُعلن عنها استخبارياً. و في الواقع أن الانهيارات المتتالية للتواجد الميليشياوي المعارض داخل و حول دمشق و بمحافظات أُخرى حصل ليس فقط بسبب التحالف العسكري السوري الروسي الإيراني و حزب الله بل أيضاً لانقطاع التمويل العربي عن المعارضة. قالها لي قادة معارضة قابلتهم بإطار تقديم المعونات الإنسانية، أنه لم يعد بمقدورهم مواصلة المعارضة دون التمويل من بعض العرب و تحت ظروف حصارٍ مُطْبِقٍ من الجيش السوري وحلفاءه.

فإن كان الحضن العربي ينفتحُ اليوم لسوريا فما الذي تغيرَ سورياً؟ روسيا و إيران و الحرب و الحلفاء لا يزالون في سوريا. سوريا لا تزال محتلةً أمريكياً و تركياً و ثرواتها تُنْهبْ علي مرأى من العالم. هل أدرك العرب فجأةً أن سوريا تنتصر و أن هدف تغييرها قد لا يتحقق و أنهم مسرورون بانتصارها؟! ثم لماذا يكافئون نظاماً خلعوه من عضوية جامعتهم و لا يتفقون علي عودته للجامعة للآن؟  مع احترامي، إن كان صحيحاً تقاربهم علي أساس سرور الانتصار فهو إدراكٌ قاصرٌ مع أنه مؤشرٌ لأن سوريا لم تنتصر للآن، و هي محتلة، و لا يوجد في الأفق ما يُدَّلِل علي انتصارٍ كاملٍ مع أزمة روسيا الأوكرانية و اهتزاز إيران داخلياً. لكن سوريا نجحت أن تُبعِدَ الهزيمة بفضل دخول الحلفاء معها و التصميم الحكومي علي البقاء و التضحيات الجسام خلال أعوامٍٍ من العذاب لكنها تبقى غير منتصرةً وعاجزةً عن تلبيةِ كل مطالب الحياة اللائقة للسوريين بسبب الحصار وبسبب توجيه الجهد و الموارد للبقاء. و لكي تنتصرَ فعلاً سيتطلب هذا ظروفاً غير متوفرة الآن من أي طرفٍ علي أي جهة. فلا أمريكا و الأكراد و تركيا و المعارضة بوارد المغادرة من تلقاء أنفسهم و لا سوريا و حلفائها بقدرة دفعهم المغادرة بالقوة أو التفاوض و لا الدول العربية تملك الحل و لا المانحة توافق علي إبعاد قيصر و لا علي إعادة الإعمار، مما لا يسمح لدخول أموالٍ للتنمية و الاستثمار، و كيف يدخل مثل هذا التمويل علي افتراض النية عند البعض وسوريا تعاني تقطيع مواصلاتها و كهرباءها و وقودها؟

و إن طَلَبَ العرب من سوريا التَخَلِّي عن حلفها مع إيران مقابل العودة للحضن العربي فهناك ما ينبغي فهمه: إن كان من انتصارٍ أو صَدٍّ للهزيمة في سوريا فقد كان في الحقيقةِ لأسباب و موارد غير عربية! فما هو البديل العربي المطروح عسكرياً و اقتصادياً لتستفيد منه سوريا؟ و هل يوافق العرب علي المسعى السوري استعادة أراضيها المحتلة بالقوة؟ و هل سترضى سوريا قطع صلاتها بإيران و الحزب هكذا بسهولة بعد سنوات التحالف؟ و أن لم يكن هذا الطلب مطروحاً فهل علاقة العرب و سوريا تختلف اليوم عما كانت عليه منذ أشهر و سنوات؟ فِعلياً؟ ما هو تأثير زيارة برلمانيين عرب لدمشق مقابل أن يحط رئيس الأركان الأمريكي بسوريا لتفقد قواته؟! وكيفَ ستتوازن الأمور لو اتسع الحضن العربي لسوريا اليوم دون أن تتغير سوريا بين عربٍ يرون إيران و الحزب الشيطان الرجيم و بين موقف سوريا المتحالف معهما رغماً عن الحنقَ العربي تجاههما؟ وافترض رضي العرب بالتواجد الإيراني فهل سينبري العرب لينافسوا إيران كسب الود السوري و لماذا سيفعلون هذا إن لا تتخلى سوريا عن إيران و لا عن سعيها لإنهاء حالة المعارضة المدعومة من بعض العرب؟! و ماذا تريدُ سوريا من العرب إلاّٰ المساندة الفعلية العملية التي تساوي ما يرِدها من آيران، و التوقع أن يقف العرب مع مطالب و مساعي سوريا استعادة سيادتها؟ الأسئلة متعددة و ليس لها إجاباتٌ واضحة. قد تكون نتيجة المعادلة هي العبارة المعروفة عربياً "عفى الله عما سلف" و لكن السياسة لا تقبل هذا و لا السوريين أيضاً. السوري الذي فقدَ الدم و الأرض و العمل و ذاق المرارة بأنواعها قد ربما يغفر للعرب و لحكومته إن تحسنت حياته و لملمَ بالعودة العاطفية العربية شأنه ليعاود الحياة. لكن لهذه العودة العربية مقدماتها المطلوبة المادية قبل العاطفية، مالاً و استثماراً و معونةً، لتمكين السلطة السورية علي استعادة ما خرج و يخرج من بلادها، و أثمانٌ سياسيةٌ ستدفعها سوريا لن تقل عن بنود تحالف سوريا و روسيا و إيران. فهل سيخرج السوري من "تحت المزراب لتحت الدلف؟"  المعلوم أن كثيراً من السوريين غير راضين بالالتصاق مع إيران و تعالي النبرات الإيرانية، و الروسية، في الشأن السوري، لكن اليد الممدودة إيرانياً و روسياً لسوريا كانت فعَّالةً في إنجاح الهدف السوري للبقاء مما يجعل الانزعاج مقبولاً نوعاً ما. بينما كانت اليد العربية طويلةً في تقويض سوريا فهل سيرضى السوريون اليوم بنبراتٍ عربيةٍ تتردد من باب إعادة تأهيل سوريا و إصلاح الحكم السوري مقابل زاويةٍ بالحضن العربي؟ ثم هل الثمن لاستقرار سوريا هو علاقاتٌ متصالحة مع "إسرائيل"؟

قد يكون للحضن العربي نوعٌ من الدفء المعنوي و الإنساني، لكن التفاؤل يبدو مبكراً و غير منطقياً، و الموقف السوري و العربي شائكٌ و غير واضح المرامي. و علي أي حالٍ، لا يعني شيئاً كثيراً الحضن العربي من دون المخلب العربي. إن تحتاج سوريا له فهي تحتاج لمخلبه لصالحها ليس ضدها لتحرير الأرض السورية، و يحتاجه الفلسطينيون واللبنانيون واليمنيون.  و قد لا يتسع الحضن أو يقوى المخلب و لا يحمي، لا هم و لا حتى تلك الموارد الطبيعية العربية مثل مياه الأنهار من السرقة، ومنع غيرها من مظاهر الاعتداء السافر علي العرب من المحيط للخليج. القناعة، أن الحضن العربي مجرد إشاعة.

علي الزعتري
الأردن
مارس/آذار ٢٠٢٣
تابعو الأنباط على google news
 
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الأنباط © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الأنباط )