الأنباط -
هاني علي الهندي
تقوم فكرة رواية (راحابيل) للدكتور أنور الشعر على إنشاء دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين بمساعدة الانتداب البريطاني والقوى الاستعمارية في المنطقة، بأسلوب روائي تسلسلي تراتبي، مزج فيها بين الواقعية والرمزية، بين الحقيقة والخيال. هيمن فيها أسلوب السرد الذاتي على مجمل مساحة الرواية حيث عبرت الشخصيات عن أفكارها ووجهات نظرها.
رواية مزجت بين التاريخ والسياسة وفن الرواية، دونت السجل الصهيوني وأساليبه الرخيصة في الاستيلاء على الوطن العربي والسيطرة على حكامه، فقد اعترفت الرحابيَّة كيفيرا
منها استخدام الجنس وسيلة دنيئة لتحقيق الأهداف الصهيونية، فساهمت في مأساة الأمير غزوان الذي وقع ضحيّة خططها ومؤامرات قومها في إقصائه عن الحكم والتمثيل بجسده وإلقائه في قاع المدينة.
ومن أجل تنفيذ المخطط فقد استطاعت كيفيرا إغواء الأمير غزوان فتزوجها فأنجبت منه عفران الذي تزوج من الراحابية أستير ليتكاثر الراحابيون في أم النواعير. ثم تزوج غزوان من نجود الأبية ولكن بعد فوات الأوان ليقود ابنها عصام، الذي له من اسمه نصيب، جموع المقاومة ضد الظلم والطغيان.
وقبل الحديث عن ملامح الواقعية، نقول إن الكاتب الواقعي يختار موضوعات يعيشها الناس في حياتهم الاجتماعية، يحللها ويصفها وصف دقيق ليضفي عليها مزيدًا من الواقعية، فالوصف من أبرز ملامح الواقعية، سواء؛ رسم ملامح الشخصيات أو المكان أو ذكر بعض الأحداث الواقعية التي يعرفها القارئ، مما يؤدي إلی إيهام المتلقي بالواقع ويزيد في الإقناع. وهذا ما امتازت به رواية راحابيل.
وصف الشخصيات:
لعل المتأمل في رواية راحابيل يرى أن بعض الشخصيات تشكل نموذجا لأفراد من المجتمع، مما يجعلها واقعية مثل نادل المقهى وهمام وبديع وإجلال ووداد وواصل، وعلى شخصيات متخيلة مثل الروحاني مصرون وكيفيرا وغزوان وعفران وأسير وكريم الصحراني ونجود.
وحسب ما يرى (بيتروف)، فإن الواقعية "تقتضي إلی جانب صحة وصدق التفاصيل، التجسيد الصادق للشخصيات النموذجية في الظروف النموذجية التي تحيط بها وتضطرها للفعل"، فحاول د. أنور الشعر أن يرسم تفاصيل الشخصيات ودقائقها مختارا لكل شخصية لغة تناسب أسلوب حياتها وطريقة تفکيرها من أجل إيهام القارئ بواقعية ما يقرأ.
فقد وصف الشخصية الرئيسة في الرواية شخصية المبتور قائلا: "رأيته ملقى على قارعة الطريق في أحد شوارع قاع المدينة حيث ينام الشارع ويصحو.... كان يتكئ على بقايا جسده الذي أنهكته الأيام وتصاريف أهلها يلف ما تبقى من أعضائه بأسمال بالية ممزقة وكأن الدهر أكل عليها وشرب. ساقاه مبتورتان ويده اليسرى ملفوفة بجبيرة مربوطة إلى عنقه ... ص9.
ويصف الراوي همام ملامحه الخارجية وهو يتجه إلى المقهى "كنت مرتديا بنطالا رماديا وقميصا أزرق سماوي يغطيه معطف كحلي اللون، وحاملا حقيبة من الجلد تمنع وصول الماء أو أي سائل للأوراق التي أحتفظ بها في داخلها" ص13
كما ركز الراوي على وصف الملامح الخارجية للعامل الذي صادفه بالمقهى "وكان يرتدي بدلة سفاري قديمة رمادية اللون وفوقها معطف أسود يتناسب مع بشرته البيضاء وقامته فارعة الطول مما جعله يبدو وكأنه من الجماعات التي تدافع عن حقوق العمال" ص15.
وفي وصف الراوي كيفيرا لسمو أمير البلاد الشخصية المتخيلة قالت: "كان متألقا في بدلته ذات اللون الكحلي ويرتدي تحتها قميصا أزرق بلون السماء، وجاءت ربطة العنق المتناسقة مع لون البدلة ولون القميص" ص113
وصف شخصيات كتاب "حكماء وزعماء أبناء راحاب" :
يصف همام استير/ حذام حسب الصورة التي استلمها من المبتور" فتاة فارعة الطول بيضاء لون الوجه، ترتدي فستانا قصيرا أزرق اللون وقبعة كبيرة كالتي نشاهدها في الأفلام الأجنبية" ص60
ويصف موسى الروحاني الرحابية كيفيرا/ خولة " فتاة بيضاء بعينين زرقاوين، وقوام ممشوق ممتلئة حيوية ونشاط ودلالا وغنجا تسبي العقول قبل القلوب" ص102
وفي وصف أستير للرجل المهم الذي ستقابله في باحة الفندق " كان رجلا فارع القامة، والبشرة بيضاء ضاربة إلى الحمرة والشعر طويل مسترسل من الخلف مع تباشير صلع خفيف في مقدمة الرأس" ص218 .
هذه الملامح الخارجية للشخصية والإمعان بوصفها بحيث يقوم القارئ برسم ملامحها بمنتهى الدقة وبالكثير من التفاصيل فتظهر الثياب بألوانها ولون البشرة والطول والشعر، تعكس المستوى الطبقي والبيئة الاجتماعية للشخصية، وتمنح النص سمة الواقعية وكأنهم أشخاص يتحركون بيننا ويمارسون الحياة بكل تفاصيلها.
ولا بد من الإشارة إلى توظيف اللون الأزرق في الملابس أكثر من غيره للتعبير عن الثقة، والذكاء والسلطة، فقميص الصحفي همام يدل على ثقته بنفسه، وقميص أمير البلاد عدنان الرشيدي يدل على السلطة، وقميص أستير يدل على الذكاء.
وكما نلاحظ تغيير اسمي كيفيرا/ خولة واستر/ حذام فالاسم الأول يدلّ علی الهويّة وإخفاءه یدلّ علی إخفاء الهويّة من أجل تحقيق الأهداف غير المعلنة لقيام دولة راحابيل.
الوصف الداخلي للشخصيات:
وهو ما يطلق عليه بعض النقاد الوصف التعبيري، هو انفعالات داخلية تظهر على ملامح الشخصية لتعبر عن أفكارها وعواطفها وميولها، وقد يقدم الوصف للملامح الداخلية للشخصية بواسطة شخصية أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا الوصف يؤدي الوظيفة الإيحائية التي تجعل القارئ يفهم ما بدواخل الشخصية.
فقد أثار فضول العمال المرتادين للمقهى حضور الصحفي همام، فأخذوا ينظرون إليه نظرات فيها حيرة وفضول، هذه النظرات كشفت ما بدواخلهم من تساؤلات حول حضور هذا الشاب الأنيق إلى هذا المكان. ص14.
ويقول الراوي في وصف عالم ذاك المبتور من الداخل: "ومع تكرار ذهابي للمبتور تولدت بيننا بعض الألفة وعندما وضعت الطعام في حجره تبسم وهز رأسه دلالة على الشكر والامتنان لما أفعله معه، وفي اليوم الثامن وضعت له الطعام في حجره وجلست إلى جانبه وبدأت أناوله الطعام لقمة لقمة نظرت في عينيه فرأيت فيهما دفئًا كبيرًا وحنانًا عظيمًا وشعرت أن آبائي من آدم حتى الآن يحيطونني بدفئهم وحنانهم" ص38
يكشف هذا الوصف الداخلي عن رضى المبتور من همام الذي استطاع أن يدخل إليه جزء من الارتياح، وربما الأمل.
ومن وصف الملامح التعبيرية ما وصفته كيفيرا للأمير غزوان فقالت: "كان غزوان فارسًا شجاعًا وشهمًا يحمل الكثير من صفات أبيه وطباعه كما عرفت فيما بعد" ص117
وكذلك وصفها لنفسها في بداية زواجها من غزوان " كنت صبية فتية تفور بالحياة والنشاط والجمال والإغراء، ص129. فقد كشفت عن قدرتها في اصطناع الدلع والغنج وسبي العقول قبل القلوب، وهذا ما أوقع الأمير غزوان في حبائلها.
وصف الأمکنة والأشياء:
يشكل المكان في القصة والرواية العمود الفقري الذي يحمل بقية عناصر السرد؛ كالزمن والشخوص والأحداث وباقي العناصر، ويرتبط ارتباط وثيق بالأدوات الفنية التي تحدد أبعاده لاسيما الأحداث.
ويكتسب المكان أهميته في الرواية من خلال قدرة الروائي وخبرته في عملية بناء الرواية بشكل عام وجعلة مؤثرا في الأحداث، وقدرته على توظيفه كعامل من عوامل بناء الشخصية وتفاعلها مع المكان، لأن المكان في الرواية ليس هو المكان الحقيقي بأبعاده الهندسية والطبيعية، وإنما هو المكان الذي يخلقه الروائي في روايته لتجسيد رؤيته والتعبير عن أفكاره ومشاعره من خلال المضامين التي يطرحها.
ويأتي وصف المكان في هذه الرواية، بهدف رسم صورة واقعية في ذهن القارئ من خلال تقديم معلومات جغرافية أو تاريخية، لتبدو هذه الأمكنة وكأنها واقعية يعايشها القارئ وهذا ما امتازت به رواية راحابيل.
وسأكتفي بالحديث عن بعض الأماكن التي تخدم واقعية الرواية منها:
عندما وصف الراوي/همام المقهى الشعبي قال: "أسندت ظهري إلى الجدار المكون من صفوف من اللبن خشن الملمس، الذي يبدو أنه قد بني بيد بناء غير ماهر، ولم يتم صاحب المحل عمليات القصارة والدهان ليجبر المستأجر على القيام بذلك على نفقته الخاصة" ص14
فإنه يكشف لنا من خلال الوصف أن المقهى يقع في حي من الأحياء الشعبية المهمشة، بالإضافة إلى استغلال صاحب المحل للمستأجر. وهذا يحدث فعلا في المناطق المهمشة، لأن رواد هذا المقهى من الطبقة الكادحة التي لا تهتم بالمظهر.
وعندما وصف قاع المدينة "كانت رائحة المياه العادمة التي تتدفق بغزارة تبعث على الغثيان وضيق التنفس، المحلات قد فتحت أبوابها، وقد بدأ الباعة المتجولون ينتشرون في الشوارع. بعض الباعة احتل أمكنة على ناصية الشارع ووضعوا بضائعهم، ....أطعمة مكشوفة من حلوى وشطائر، ألعاب أطفال جديدة ومستعملة، أدوات منزلية قديمة، وقد تكون مسروقة" ص28.
اهتم الروائي أنور الشعر بالوصف الجغرافي مرورا إلى بعض الحقب التاريخية ليقنع المتلقي بواقعية الرواية عندما قامت كيفيرا بوصف المملكة الرشيدية: "شاسعة الامتداد ومترامية الأطراف وتمر فيها على جبال عالية وأودية خضراء يلفها الضباب ثم تجد نفسك في سهول واسعة تغطيها المزروعات من كل الأصناف وفي الطريق عرجنا لمشاهدة بعض الآثار التي تعود إلى حقب تاريخية متعددة وقلت في نفسي لقد زرنا آثارًا تاريخية لأمم عديدة في حقب مختلفة ولكن لماذا لا أرى أي أثر تاريخي يشير إلى وجود أجدادي في هذه المناطق كلها" ص108
كما وصف مظاهر الطبيعة في فصل الربيع في أم النواعير عندما بدأ يعقوب مزراقي بوصف الطريق في رحلته باتجاه البحر الكبير/ يافا: "وعلى طول الطريق كانت تحيط بنا بساتين البرتقال من الجانبين، والزهور تنمو على جوانبها، والمشهد يعبق بألوانها الجميلة، تراقصها النسائم وتغازلها الأطيار من كل الأجناس" ص182
وفي وصف آخر ف فصل الشتاء" كان الجو بديعا لكنه يميل إلى البرودة، اذ إن فصل الشتاء لم ينتع بعد، وقد تداهم المنطقة عدة جبهات هوائية باردة قبل أن ننتقل إلى فصل الربيع" ص84.
جاء وصف مظاهر الطبيعة بتفاصيلها الدقيقة يمنح الرواية واقعية خاصة وكأنها صورة فوتوغرافية أمام المتلقي لتزيد من إقناعه بواقعيتها، وهذه من مميزات الأدب الواقعي.
القضايا الاجتماعية:
نظر الأدب الواقعي إلى القضايا الاجتماعية والمشاكل الإنسانية التي تخلق حالة صراع بين الإنسان وتلك القضايا: كالفقر والفساد والمحسوبية والظلم وغيرها من المآسي الاجتماعية التي يتعرض لها الإنسان كمواطن، فقد وضع الصحفي همام أصبعه على العديد من قضايا البؤس الإنساني والقهر الاجتماعي "الباعة المتجولون، مطاردة موظفي البلدية ورجال الأمن، فتاة لم تبلغ الحلم تمارس التسول عند اللإشارة الضوئية والبرد يتسلل من ملابسها الرثة ليستقر في عظام جسمها النحيل" ص30
وانتقد عمالة الأطفال في الشوارع عندما شاهد صبيا يقف على قارعة الطريق، يرتجف من البرد يبيع الشاي للمارة، ويتساءل: "ألا يجب أن يكون هذا الصبي على مقاعد الدراسة الآن؟! أين أصحاب الولاية، وأين الذين يدعون الدفاع عن الطفولة ويهاجمون عمالة الأطفال ؟!" ص29.
ومن مهامه واهتماماته كصحفي كشف معلومات فساد الحكومات والمحسوبية والواسطات فقال: " يبدو أن طلبات من هذا النوع يحتاج إلى واسطة لمسؤولي البلدية، ألم يفكر أحد في ذلك" ص19.
كما وصف حال المتدافعين إلى الحافلات والسرقات، والأوساخ التي يلقيها المارون بطريقة بلهاء، وعدم توزيع ثروات الوطن العربي بصورة عادلة، وتبعية الصحافة للحكومات، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تؤكد واقية الرواية.
استطاع أنور الشعر من خلال لغته وأسلوبه السهل الممتنع أن يرسم الحياة اليومية للبسطاء والمهمشين، بلغة فصحى بسيطة تقترب من اللغة الدارجة، يطرح قضاياهم وهمومهم بصور جمالية، ضمن مضمون ما زال يشغل العالم، ويعاني منه الشعب الفلسطيني حتى الآن منذ قيام دولة راحبيل وهي دولة الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية، هذه الدولة التي قامت على الانحرافات الأخلاقية لفكيك أنظمة الدُّول المعادية.