الأنباط -
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
بما يزيد على 110 جلسات وحضور ما يربو على 4000 مشارك من 190 دولة انعقدت في مقر معرض اكسبو 2020 في دبي قمة الحكومات للعام 2022 تحت هوية واحدة تتحدَّث عن استشراف حكومات المستقبل، ودورها في تقديم خدمات للمجتمع من أفراد وشركات، ضمن منظومة جديدة مفتاحها الابتكار والإبداع والرشاقة والعالم الافتراضي. الجلسات المتعددة غطَّت أطيافاً متنوعة من اهتمامات الحكومات، وصنّاع القرار، والباحثين في المجالات المالية، والصحية، والتعليمية، والخدمات اللوجستية، والعالم الافتراضي. كما تطرَّقت الجلسات المتنوعة إلى التحوُّلات العالمية في الخدمات الحكومية في ظل التطورات العالمية في عالم البيانات الكبرى، والذكاء الاصطناعي، والفضاء الافتراضي، وعالم الميتافيرس. فالتطورات العالمية اليوم تتمحور حول دور الحكومات مستقبلاً في ضبط وتنظيم، ومراقبة، وتشريع، وإدارة التحوُّلات العالمية في مجال عالم العملات المُشفَّرة، والعملات الرقمية، وما يحدث من خلط بينهما، وعالم الميتافيرس، وما بدأ يطفو على سطحه من معاملات تجارية، وعقارية، واستثمارية متنوعة، والبيانات الكبرى، وإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، وما نتج عن ذلك من تحويل العالم إلى فضاء عالمي موحد مفتوح، وليس فقط قرية عالمية صغيرة. وجميع ما سبق من تطورات ذكية ورقمية ومشفَّرة وافتراضية، تكاد تكون بعيدة تماماً عن ضوابط سلطة الحكومات، ورقابتها، ودورها التنظيمي، وسلطاتها التشريعية، أو حتى الإدارية. استشراف مستقبل الحكومات، وهو الهوية الرئيسة لقمة الحكومات 2022، هو محور تقدُّم، أو تخلُّف الحكومات، ليس فقط في مجال تقديم الخدمات، وتبسيط الإجراءات، والتسهيل على المواطن، والمقيم، والمستثمر، بل أيضاً في مجال القدرة على ضبط إيقاع الوجود كحكومة فاعلة، أو حتى التواجد ضمن منظومة النظام العالمي الجديد. فاليوم، ومستقبلاً، باتت البيانات الكبرى، وفضاء الخدمات الرقمية، والتعاملات العابرة للعالم التقليدي، ضمن معطيات وتعاملات الميتافيرس، هي المحدِّدات التي تحكم ما إذا كانت حكومات المستقبل ستكون قائمة، وقادرة، ومشاركة، في صياغة الحاضر، ومستقبل الأجيال القادمة. لم يعد التعامل الافتراضي، واستخدام البيانات الكبرى، وتوظيف التقنيات وتطبيقاتها الذكية ترفاً يمكن التغاضي عنه، أو تطبيقه بجزئيات محددة. ذلك أنَّ النظامي العامي الرقمي الجديد، بدوله المتقدمة أو الساعية إلى التقدُّم، وحتى تلك التي تُسمّى في طور النمو، تسعى جميعها إلى التواجد في العالم الافتراضي، وفي عالم الذكاء الاصطناعي، والخدمات السحابية، وعالم فضاء الأصول الافتراضية المتوافرة في الميتافيرس. فحتى التطبيقات الذكية باتت حقيقةً مفروغاً منها، وعالم الخدمات الافتراضية، والتواجد الافتراضي بات المحدد الرئيس لأي اقتصاد يرغب في أن يكون له موطئ قدم في ذلك النظام العالمي. بل إنَّ التعريف الجديد للناتج المحلي الإجمالي سيتحوَّل إلى مفهوم الناتج المحلي القومي أو العالمي، ليشمل ليس فقط عناصر الإنتاج خارج الحدود، بل أيضاً عناصر ومكونات القيمة المضافة في العالم الافتراضي، وعالم الميتافيرس، وما يشمله من انتقالات لرؤوس أموال، وعمليات شراء أصول افتراضية جديدة، أوعمليات تكوين أصول افتراضية، في الفضاء الذي يخصُّ الدول. بل وقد يشمل انتقالات عقارية وقيماً مضافة افتراضية تتعلَّق بما يخصُّ بعض الدول من مواقع أو أصول حقيقية. فقد يضاف إلى قطاع السياحة مثلاً، في دولة ما، القيم التي ينفقها السائح الافتراضي الذي سيزور مواقع معينة افتراضياً، ويطلع عليها من كافة جوانبها دون أن يقوم بزيارتها، وقد تكون القيمة النقدية لذلك هو دفع رسوم رمزية، وضمن حقوق ملكية فكرية افتراضية ومعرفية محددة. كما قد يعدُّ من يحضر ندوة، عبر الفضاء الافتراضي وعن بُعد، وعبر التطبيقات التفاعلية، على أنه زائر للدولة، وقد يترتَّب على ذلك رسوم معينة للحضور، أو للحصول على مخرجات، ونتائج عمل الاجتماعات. مستقبل الحكومات سيتحدد في قدرتها على التواجد افتراضياً، أكثر من مجرد تواجدها التقليدي، والسلطات التي تتمتَّع بها عبر ذلك التواجد، فالسلطة الحقيقية ستكون في القدرة على التواجد والضبط الافتراضي. حكومات المستقبل الجادة ستعمل من اليوم على التواجد الافتراضي الذكي، قبل أن ينتهي بها المطاف وهي غير قادرة على السيطرة على أبسط أدوارها التقليدية، فتجد من يُشَرّع عنها، ومن يستحوذ على مواقعها السياحية افتراضياً، ومن يُوجِّه مواطنيها عنها، ويسيطر على تعليم، وثقافة، ومعرفة، وقدرات المواطنين، وهي تنظر ولا تحرِّك ساكناً. حكومات المستقبل حكومات غير تقليدية، تُسيطر، وتَحكم العالم الافتراضي، قبل أن يتحكّم بها، ويفرض شروطه عليها، وعلى مواطنيها، وعلى اقتصادها.