الأنباط -
"بنك توفير الوقت".. إبداع إنساني
الأكاديمي مروان سوداح
طالب يَدرس في سويسرا، ويَسكن في غرفةٍ عند امرأة عمرها 67 سنة. تلك المرأة كانت معلمة قبل تقاعدها، و"الآن" تستلم راتباً تقاعدياً مجزياً، لكنها تذهب إلى عملها فقط مرتين في الأسبوع، وتلخَّصَ عملها في مهمة إنسانية هي رعاية مُسنٍ عمره 87 سنة. أبدى الشاب امتنانه مِمَّا تقدم له من خدمة، وسألها: أتعملين لكسب المال؟
أجابته: أنا لا أعمل لأجل المال، بل لكسب الوقت!
واسترسلت قائلةً: أنا أضع لنفسي "وقتاً" في "بنك توفير الوقت"، أو كما يُسمَّى أيضاً "بنك الزمن". المرأة بعملها هذا إنما "توَدِّع الزمن" لكي تستطيع الصرف منه عندما تحتاج إليه بعد تقدُّمِها في السِّن، أو عندما تُصاب بحادث ما وتحتاج بالتالي إلى مَن يساعدها.
يقول الطالب، بأنها المرة الأولى في حياته يَسمع فيها عن "بنك الوقت"، واستفسر منها عن معلومات أكثر عن ذلك البنك، فقالت له: إن الحكومة السويسرية أنشأت ذلك البنك كضمان اجتماعي للناس حيث يَفتح كل راغب في الاشتراك فيه حساباً يُسمَّى "حساب زمن"، بحيث يُحسب له الزمن الذي يقضيه في الخدمة الاجتماعية، خصوصاً في خدمةِ المُسنِّين، والمرضى الذين لا يوجد عندهم مَن يرعاهم أو يساعدهم من عوائلهم.
يُشترط على المشترك في هكذا بنك أن يكون سليماً صحياً، وقادراً على العطاء والتواصل مع الآخرين، و"مؤهل للتحمُّل"، وراغباً في تقديم الخدمات الاجتماعية بنفس راضية وإخلاص. فعندما يَحتاج شخص ما إلى مساعدة يُرسِل إليه البنك مواطناً متطوعاً مِمَّن اشتركوا في البنك، ليخدمه، ويخصم الوقت من حسابه. الخدمات التي يُقدِّمُها المُتطوِّع إمَّا يُقدِّمها للمُحتاج في المستشفى، أو في بيت ذاكَ المُحتاج، كأن يرافق المُحتاج للتسوق، أو للنزهة أو في تنظيف منزله وحمايته وإلخ.
في أحد الأيام احتاجت تلك المرأة، التي نتحدث عنها، للمساعدة عندما سقطت أثناء تنظيف نافذتها، وكسرت كاحل قدمها، فاضطرت للبقاء في السرير عدة أيام. أراد الطالب تقديم إجازة اضطرارية لمساعدتها، إلا أنها قالت له: إني لا أحتاج للمساعدة، لأنني قدَّمت طلب سَحب من رصيدي في البنك، وبالتالي البنك سيرسل إلي مَن يساعدني.
جاء المُساعِد الذي عَيَّنه البنك، وشرع في رعايتها والتحدُّث إليها، ورافقها إلى الأمكنة التي أرادت الوصول إليها، وجَمَعَ لها حاجياتها المطلوبة من السوق، وأرسل البنك إليها مُمْرضَة عندما احتاجت إليها.
بعد تعافيها من الكسور التي ألمَّت بها، عادت السيدة إلى العمل مرتين في الأسبوع فقط، وذلك لتعويض ما خسرته من وقت في البنك!
الخلاصة: هكذا يعمل "بنك الوقت". الشعب السويسري يؤيّد ذاك البنك ويدعمه، لأنهم لمسوا فوائده الجمَّة على المجتمع.
باختصار: تجارب هذا النوع من البنوك تصب لخدمة مبدأ إنساني هام، هو "خدمة البشر"، وتقديم الخدمات الأرقى لِمَن يحتاجها بشدة وغير قادر على تلبيتها بقواه الذاتية. كذلك، تم تأسيس هذا النوع من البنوك بغية تفعيل تبادل أو لنقل "مقايضة خدمات اجتماعية"، بدلاً من تبادل أموال، والخدمة هنا تدخل في باب "المصلحة"، لكنها المصلحة الخالية من الكسب المالي أو المادي أو حتى المعنوي، إنَّما لتعزيز وتجذير العقيدة الإنسانية في الشعب ليس إلا، مع ما يفضي ذلك إلى مزيدٍ مِن أنسنة الحياة الاجتماعية للشعب. إنها فكرة جميلة جداً وجذابة للتطبيق في أوساط الإنسانيين، ومفيدة للغاية، وشكلٌ من أشكال تربية الأجيال الجديدة وأنسنتها بالعمل والمِثال الحَسن لا بالقول والكلمة فقط، ولنشر روح التكافل بين الناس بغض النظر عن أفكارهم، وأديانهم، وقومياتهم، وأجناسهم، وألوانهم، ومواقعهم الطبقية وغيرها من الصِّفات. ويمكن تطبيق هذا الإبداع الإنساني، (بنك توفير الوقت) في كل المجتمعات، إلا أنها تتطلب انضباطاً كبيراً، وإحساساً بالغاً بالمسؤولية، وإخلاصاً في أداء العمل بدقة، وثقافة إنسانية عالية، ومعرفة بكيفية التعامل مع العَجزة، وكِبار السِّن والمرضى، ونأمل تطبيق هذه الفكرة التي تتسق مع الفكر الديني، في مجتمعنا الأردني ومجتمعاتنا العربية، لنلحق بركب الأمم الأكثر تطوراً والتي تُعلي مكانة الإنسان وإنسانيته على كل شيء آخر.