الأنباط -
د. طارق الحموري
الديمقراطية بحد ذاتها ليست مهمة كغاية، فهي لا تعدو أن تكون وسيلة فيها حد مختلف على جدواه من أدوات الرقابة وتوازنها ونجاعتها. لكنها من أفضل الوسائل المتاحة اليوم للحكم. فإن طبقت بشكل سليم ومتدرج وعقلاني، يمكن أن توفر تداولا سلميا للسلطة ورقابة شعبية على أداء الحكومة ونتائج عملها، مما يقود إلى تجويد عمل الحكومات وينعكس على حياة المواطنين على شكل فرص عمل ورعاية صحية وتعليمية وخدمات بجودة عالية وغيرها من احتياجات المواطنين.
في سيناريو الديمقراطية فإن الفرضية (بأحد أشكالها المبسطة) تبنى على تصور أن المترشحين للانتخابات النيابية يترشحون بناء على برامج عمل جمعية (من خلال أحزاب أو تكتلات سياسية) تهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق رفاه المواطنين فيما يحتاجونه من مناحي حياتية أساسية مختلفة وفي مسيرة الدولة وتقدمها. وتتنافس الأحزاب والتكتلات السياسية فيما بينها على هذه الأسس. فإن فاز حزب في أغلبية مقاعد البرلمان فإن هذا يعني أن برنامج الحزب أو مصداقيته وافقت عددا أكبر من المواطنين، فيكلف الحزب بتشكيل الحكومة. ويمكن أن لا يفوز أي من الأحزاب بأغلبية مقاعد البرلمان، ففي هذه الحالة تشكل الحكومة من إتلاف أحزاب قادرة على الحصول على ثقة مجلس النواب. وبمجرد تشكيل الحكومة، تبدأ بالعمل على أساس البرامج التي اختارها الشعب لتنفيذها، وتكون حريصة على تحقيق برامجها التي تعهدت بها للمواطنين وعلى استمرار التواصل مع المواطنين لشرح ما تقوم به كونها ستتعرض للتقييم الشعبي في الانتخابات القادمة، فإن تم انتخاب الحزب الحاكم أو أحزاب الإئتلاف الحاكم فإن هذا يعني رضا المواطنين عن أدائهم و نتائجهم ومسيرتهم ويستمرون في الحكم. وإن لم يتم انتخابهم وتم انتخاب حزب أو أحزاب أخرى فهذا يعني عدم رضى المواطنين عن برامج أو أداء أو مسيرة الحكومة وقبولهم ببرامج بديلة لأحزاب أخرى. على أنه في هذه الفرضيات، فإن الأحزاب التي لا تنجح في الحصول على أغلبية، تصبح أحزاب معارضة تعارض الحكومة الحزبية القائمة وتشرح للمواطنين مواطن القصور في عمل الحكومة. وهكذا يكون هناك تنافس سياسي برامجي قوامه تحقيق الأفضل للمواطن، وهذا هو الوضع المثالي في الحكم.
هذا السيناريو الديمقراطي المبسط يرسم صورة وردية جميلة، فهل هكذا هي الديمقراطية دائماً؟ وهل من مخاطر في مثل هذا البناء الجميل؟
كما في كل تصور وبناء نظري يمكن للنظرية أن تنجح في التطبيق ويمكن أن تفشل. فقد تم انتخاب الحزب الفاشي في إيطاليا في عام 1924 ليقوم رئيسه بنيتو موسوليني بتحويل نظام الحكم الديمقراطي إلى نظام قمعي شمولي، كما أن حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني وصل إلى السلطة بشكل ديمقراطي ومن خلال الانتخاب في عام 1933 ليقوم رئيسه أدولف هتلر بتحويل نظام الحكم الديمقراطي إلى نظام دموي دكتاتوري. أما في التجارب المعاصرة غير المتطرفة، فقد تم انتخاب الرئيس بيدرو كاستيلو في شهر 7 من هذا العام رئيساً لدولة بيرو، وهو يساري شعبوي متطرف وعديم الخبرة، وقد تم انتخابه على أسس ديمقراطية، لنرى وخلال أشهر قليلة انخفاضاً يومياً في قيمة العملة وازديادا في التضخم ومغادرة للاستثمار.
لكن تجارب التحول الديمقراطي ليست بالضرورة سلبية، فقد رأينا نجاحات مهمة للديمقراطية في بريطانيا وغيرها من دول العالم. إذاً، فالتحول الديمقراطي قد يقود إلى رفاه الشعوب وتقدم الدول وقد يقودها إلى حتفها، فكيف نصل إلى تحول ديمقراطي يقودنا إلى الرفاه ويتجنب مخاطر ما حصل مع غيرنا من الدول؟
بداية لا بد لنا من الاطلاع على تجارب غيرنا ونجاحاتهم وإخفاقاتهم لا لنقلها حرفياً بالضرورة ولكن حتى نتعلم منها، مع إدراكنا للفوارق بيننا وبين الآخرين. فليس من اليسير القياس على الديمقراطيات الناجزة والعمل على أن نصل اليوم إلى ما وصلت له اليوم، فقد مرت دول مثل بريطانيا وفرنسا وغيرهما بعقود من التغير التدريجي والبناء المتراكم حول الديمقراطيه، لتصل إلى ممارسة يومية بأدبيات وقواعد اشتباك واضحة لدى المؤسسات البيرقراطية والأمنية واللاعبين السياسيين من أحزاب وأشخاص وحتى مواطنين، كفلت بما وصلت له اليوم حماية الديمقراطية من الشطط والغلو مع الحفاظ على مساحات كبيرة للحركة والاجتهاد، وهذا لم يحصل بين ليلة وضحاها.
وفي أميركيا، فقد كان وصول رئيس متطرف إلى السلطة أحد هواجس واضعي الدستور الأميركي، ووضعوا للتأمين ضد مثل هذه الأحوال نظام (Electoral College) الذي يمنح أشخاصا معدودين حق تقرير انتخاب الرئيس الأميركي من عدمه بالرغم من إرادة الناخبين وحصيلة تصويت الناخبين.
إن تطوير الحياة السياسية للوصول إلى الديمقراطية الناجزة كمقصد نهائي لنهج إدارة الحكومات أمر يصبو إليه الكثير منا، لكنه محفوف بالمخاطر إن لم يسر بالطريق الصحيح. فالسير بخطى بطيئة مدروسة على مسار واضح المعالم قابل للتقييم والتصويب والتعديل كما بأن فيه عوارا، خير من أن نقفز مرة واحدة في الهواء لنقوم باستدارة كاملة وردة سريعة عن التحول الديمقراطي عندما تدلهم الخطوب في أول منحنى قاس، كما حصل في التحول الديمقراطي لدى غيرنا من أبناء لسان الضاد خلال الأشهر الماضية.
هذا كله يقودنا إلى القول بضرورة المضي بتطوير الحياة السياسية، لكنه يقودنا إلى ضرورة تطويرها لكن برويّة وبطريق مدروس وبضمانات مرحلية واضحة شريطة أن لا تصبح هذه الضمانات قيوداً تحول عملياً دون الوصول إلى الديمقراطية.