الأنباط -
مفهومي للانتماء والولاء
قلت سابقاً انني وقبل ان استكمل كلامي حول مخرجات تحديث المنظومة السياسية ، سوف اتحدث عن مفهومي الشخصي للانتماء والولاء ، لانه ومن وجهة نظري فنحن مقبلون على مرحلة هي امتحان لمقدار ما يتوفر لدينا من انتماء لهذا الوطن ، وولاء لهذا النظام .
واذكر انه في نهايات خدمتي العسكرية كُلفت دون اعداد مسبق بالقاء محاضرة حول الانتماء والولاء . وقد تحدثت في ذلك المساء لمدة ساعتين .
حيث قلت ان مفهوم للانتماء بالنسبة لي يتلخص بأحساس المواطن بمدى ارتباطه بوطنه الذي يحمل جنسيته وعشقه ومحبته له بحلوه ومره ، وعلى الاغلب فأن الاغلبية العظمي من المواطنين تجمع على هذا الانتماء .
…اما الولاء فأن المواطنين قد تختلف مفاهيمهم حوله ، فهنالك من هم موالين للنظام وهم الذين يطلق عليهم الموالاة ، وهناك المعارضين له ، والذين يطلق عليهم المعارضة . وهناك الفئة الصامتة . ومن الطبيعي ان يتسع الوطن للموالاة وللمعارضة وللفئة الصامتة ، حيث ان كلٍ منهم يقف الموقف الذي يعتقد ان فيه مصلحة وطنه وبالطريقة التي يرى بها هذا الولاء ، باستثناء عندما يكون الولاء لغير الوطن . ولكن على الجميع العمل ضمن اطار القانون ومن غير الخروج عن الثوابت . وألا فسوف تسود حالة من الفوضى والاقتتال كما هو حاصل الآن في العديد من الدول .
الا ان العاملين في القوات المسلحة والاجهزة الامنية فأن الولاء يجب ان يكون عندهم له مفهوماً واحداً ، الا وهو الولاء للنظام . حيث لا يعقل ان يكون اعضاء الاجهزة الامنية ولائهم للمعارضة او غير مبالين ، حيث انهم حراس للوطن وحراس للنظام ، وليس عليهم رسم سياسات الوطن ولكن تنفيذها وحماية حدوده وظبط الامن فيه. والا لتحول الوطن الى الفوضى لا سمح الله . ومن يجد من اعضاء هذه الاجهزة لأي سبب من الاسباب ان ولائه لم يعد للنظام فعليه ان يخرج منها ، ثم بعد ذلك يمكنه ان يمارس المعارضة كما يريد .
اما من يستمر بالعمل في هذه الاجهزة الى ان يصبح في اعلى قمة هرم القيادة والمسؤولية ، وما ان تتم احالته على التقاعد ، حتى يقوم باستبدال ثوب الولاء بثوب المعارضة ، فهذه برأيي ليست معارضة ، بل هي محاولة للبحث عن دور جديد يلعبه .
وقد كان هذا ملخص ما قلته في محاضرتي .
ومن مفهومي هذا سيكون حديثي ، وفي الحقيقة فأن هذا لم يكن موقفي في بدايات حياتي . فأنا من جيل اربعينيات القرن الماضي ومن الذين ارتحل اجدادهم من مدينة نابلس الى مدينة السلط، في بدايات القرن التاسع عشر ، والدي ولد في السلط عام 1920 . وانا ولدت فيها عام 1946 . حيث اكتسب والدي ونحن من بعده بالتبعية والمولد الجنسية الاردنية ، بموجب قانون الجنسية الاردني الاساسي لسنة ١٩٢٨ . واكتسبنا مع ذلك الانتماء للاردن . وانا من الجيل الذي عاش ظروف خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، حيث كان يسود فيها الخطاب الثورجي والشعارات القومية واليسارية والوحدة العربية وكنا نستمع للخطابات الحماسية ودعوات الوحدة العربية ونصدقها ونهتف لقائليها . صحيح اني لم انتظم بأي حزب من الاحزاب ولكني وفيما بعد عام 1967 كنت اقرب الى احدى التنظيمات الفدائية لتعلقي بشعار تحرير فلسطين شأني شأن جميع ابناء الشعب الاردني الواحد في ذلك الوقت .
الى ان جاءت سنة 1970 ، وجاءت معها فتنة الاقتتال الداخلي في الاردن وبما عرف بأحداث ايلول الاسود ، حيث تغيرت الكثير من مفاهيمي ومواقفي . ولذا ما ان اتيحت لي فرصة العمل بأحد الاجهزة الامنية في وطني مطلع عام ١٩٧٣ حتى تركت المحاماة التي كنت قد امتهنتها حديثاً ، وتقدمت لهذه الوظيفة وتمت الموافقة على تعيني وصدرت الارادة الملكية السامية بذلك خلال اربع وعشرين ساعة لتكون اسرع عملية تعيين في تاريخ هذا الجهاز .
ومن خلال عملي في هذا الجهاز تكشفت لي الكثير من الحقائق والمواقف وعرفت حقيقة من كنا في الامس القريب نهتف لهم ونطرب لشعاراتهم ، لأجد أنهم لايساون الا بضع دنانير او منصب او جاة زائل . ووجدتهم انهم تجار يبيعوننا كلاماً ويبعوننا عند اول مشتري . وان الاعلى منهم صوتاً هو الارخص ثمناً .
ومن خلال عملي هذا اصبحت اقرب للهاشميين ولجلالة المغفور له بأذن الله تعالى الملك الحسين بن طلال ، والذي طالما كان يلتقي بنا ويحدثنا حديث الاخ لأخيه او الاب لأبنائه حسب عمر السامعين وبتواضع ومحبة ، وجعلنا نتعلق به وبهذا النظام وهذا الوطن الذي نفتديه بالروح والدم ، وجعل ولائي لهذا النظام . فاجتمع عندي الانتماء للاردن والولاء للنظام .
صحيح انه كانت توجد في بدايات تلك الفترة احكاماً عرفية فرضها الواقع الذي كانت تعيشه المنطقة ، ولكن والحق يقال ان المعتقلين في الاردن على خلفيات سياسية وتنظيمية وحتى ارهابية لم يتحولوا الى ارقام ، ولم يمت احدهم في السجون او تحت التعذيب ، ولم يحجب احداً منهم عن اهلة وذويه ، ولم يحكم على احدهم بالاعدام الا اذا كان على خلفية قضايا ارهابية ، ولم يكن الحكم ينفذ على الاغلب . ولم يسجن احداً منهم لمدد طويلة بسبب معتقداته الفكرية وانتماءاته السياسية ، وكانت الغالبية العظمي من الموقوفين يتم اطلاق سراحهم بعد ايام من توقيفهم ودون محاكمات .
واستمر الحال على ذلك حتى السابع من شباط عام 1999 حيث فجعنا جميعاً بوفاة جلالته بعد صراع مع المرض ، وشارك العالم كله في جنازته التي لم ولن يشهد التاريخ لها مثيلاً . وبعد ان ظننا للحظات ان المستقبل اصبح مجهولاً امامنا ، جاء نجلة جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين ليكمل المسيرة ، فقادها بنجاح واستطاع ان يقود دفة الوطن بسلام وسط هذه الامواج العاتية المتلاطمة المدمرة ولا يزال حتى هذا اليوم ، وحاز بذلك على ولاءنا .
ولذا فقد كان انتمائي طوال سني عمري اردني ، وكان ولائي هاشمي منذ عملت في هذا الجهاز وحتى الممات . واُحلت على التقاعد برتبة لواء منذ اكثر من سبعة عشر عاماً وبعد خدمة اكثر من ثلاثين عاماً ، خرجت بعدها من عملي بسمعتي الحسنة واستقامتي والحمد لله والتي يشهد عليها جميع من عملت معهم او تعاملت معهم بمن فيهم من حققت معهم ، وكثيراً ما التقي مع بعضهم في المناسبات فيتعرفون علي ويذكروني بأنفسهم وانني حققت معهم ويشهدون بحسن معاملتي لهم .
ثم عينت بعد ذلك مديراً عاماً لدائرة الاحوال المدنية والجوازات ، ومن الايام الاولى حزت على حب ورضى العاملين فيها . و ارضيت ضميري في عملي وخدمة جميع المواطنين .ليتم مكافئتي بعد عشرة اشهر فقط من تعيني باحالتي على التقاعد من جديد . وفي ظروف لا اريد ان اتحدث عنها الآن ، الا انني لم اتخلى عن انتمائي وولائي لوطني الاردن وللنظام الهاشمي ، واستبدلت العمل الوظيفي بالتطوعي ، ونذرت نفسيي للدفاع عن الاردن وشعب الاردن ونظام الاردن وجلالة الملك والاسرة الهاشمية من خلال الموقف والكلمة والمقالة ، وعاهدت جلالة الملك وفي ديوانه العامر على ذلك .
لا اقول هذا للتسويق لنفسي ولا للدعاية لها ، فلم يبقى لي اي مطمح او مطمع ، بل اقول ذلك لكي لا يزاود علي احد فيما سوف اقوله بالمقالات التالية ، وليعرف الجميع لماذا اخشى على وطني هذا ، وعلى النظام هذا ، في ايام اصبح كثيراً من الحق يراد به كثيراً من الباطل . واصبحت اخشى فيه على ان اسلب تاريخي وجنسيتي واردنيتي .
كم اخشى عليك ياوطني من عدو قاتل ومن صديق جاهل او متأمر . كم اخشى عليك ياوطني من الوقوع مابين المطرقة والسندان .
مروان العمد
١٣ / ١١ / ٢٠٢١