الأنباط -
بقلم الدكتور منذر الحوارات
خلال عمرها القصير استطاعت دولة الاحتلال أن تحقق ما لم يكن يخطر ببال أحد قبل قرن من الزمان ، فقد هزمت كل اعدائها واستحوذت على أراضيهم بجهد لو قيس بحروب الشعوب الأخرى لوجدناه متواضعاً ، كان ذلك بسبب ضعف خصومها وتخاذلهم والدعم الغربي الكبير ، لقد استحوذ هذا الكيان على الأرض والعقول ، ونشر مستوطناته في كل مكان من الأرض المحتلة ومدنه في فلسطين التاريخية ، لكنه في صراعه لم يستخدم الآلة العسكرية فقط ، بل جيش التاريخ فزوره لصالح مقولة لا تاريخية تخدم أجندته ، وغير ثقافة المكان واستخدم الكثير من الدول والناس لمصلحته ، لكنه في خضم ذلك وفي نشوة توسعه وانتصاره وجد أن مأزق البقاء يلاحقه ، فهو الذي طوع العالم والولايات المتحدة لإنتاج ما يسمى خطط السلام لمصلحته ، واستطاع أن يتوغل في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة ويحولها إلى مجموعة من الجزر ، يواجه الآن مأزقه التاريخي ماذا نفعل بهذا الفائض البشري الذي أصبح هو التهديد الأكبر لمستقبله وبقائه ، لابد من حلول فما هي ؟
منذ بدء الصراع اعتمدت دولة الاحتلال فكرة إدارة الأزمة وليس حلها كي لا تضطر الى تقديم تنازلات ، فبعد مرحلة الحروب بدأت بالمسار التفاوضي واعتمدت مبدأ الإقحام واستطاعت أن تُدخل مزيد من الدول العربية في خطتها تلك ، بعدها بدأت تستخدم تلك الدول في طرح المبادرات وهي تتفرج من بعيد وتراقب ردود الأفعال ، وقد تستخدم أفراد من تلك الدول وهذا ما يحصل الأن ، لكن قبل ذلك تحدد ما هو المأزق أو المشكلة التي تحتاج الى حلها ، فبعد إنهائها لفكرة حل الدولتين بشكل شبه كامل ، حددت معضلة بقائها بهذا الكم الهائل من البشر و المحشور في بقع جغرافية ضيقة ، وهو ما سيشكل قنبلة موقوتة تهدد مستقبل ووجود الكيان ، لذلك يجب حل المشكلة بالخلاص من هؤلاء إما بتهجيرهم وهذا مستحيل ، أو بتجييرهم لدولة أخرى ، وهذا ما ذهب اليه كُتاب المقال وهو شفرة اوكام ( ابسط الحلول هو الحل الصحيح ) وما لم يقله هؤلاء بأن وليم الأوكامي هو أيضاً صاحب الفلسفة الإسمية والتي نفت فكرة الماورائيات ، وكأنهم يقولون صراحة أن وجود دولة فلسطينية مجرد حلم لا يتفق مع نظريات العلم وبالتالي لا بد من إلغائها من الحسابات .
في المقال المنشور بمجلة Foreign Policy بإسم أحد رجال الأعمال لكنه بدون شك نتاج مجموعة مُدركة من الباحثين ، يحرك المقال مشاعر المجتمعين الأردني والفلسطيني حول فكرة نبيلة وهي الوحدة بينهما كدولتين ، وبمسمى جديد يضمن بقاء إسم كل منهما ، والمقال يعزز هذه الفكرة بوحدة سابقة حدثت في العام ١٩٥٠ واستمرت حتى حرب حزيران ١٩٦٧ م ويسوق في جملة مبرراته أن تلك الوحدة ستجلب الاستقرار والفوائد الرخاء الإقتصادى ، لكن رغم أن المقال يتحدث عن القانون الدولي الذي يحظر احتلال اراضي الغير بالقوة وأيضاً اتفاقية جنيف التي تمنع نقل السكان وتهجيرهم ، رغم ذلك فالمقال يسقط بجرة قلم حق أولئك المهجرين والنازحين بدون أي اعتبار لحقوقهم ، أما المستوطنات فقد ترك الخيار لساكنيها إما الانضمام الى الدولة الوليدة او ماذا لا نعرف ، وهو هنا جعل المستوطنات كأمر واقع على الاطراف الاعتراف به ، بالنسبة للقدس أُسقطت هويتها تماماً وحتى شطريها لم يُذكرا ، حتى مفهوم السيادة لتلك الدولة تُرك عن عمد مموهاً ، وكأن الكُتّاب تَرَكُوا فراغات واسعة للتفاوض المستقبلي لاجترار مزيد من التنازلات ، يبشر المقال بإسرائيل وإمكاناتها التقنية و بمشاريعها الخارقة للوقت والعادة في محاولة لإضفاء مشروعية أخرى على وجودها غير مشروعية القوة والبطش ، وهو يعد المنطقة بازدهار على مستويات عديدة ، كل ذلك في محاولة لإسالة لعاب اطراف ارهقها الفقر بمستقبل مزدهر وقد اشار المقال لذلك ،
نأتي الى الحقيقة وراء تلك المقولات ، فمحاولة إغراء الاردن بعوائد اقتصادية من وراء هذا المشروع هي محض هُراء ، فحينما أُحتُلت الضفة الغربية في العام ١٩٦٧م كانت تشكل الجزء الأهم من الاقتصاد الأردني ، وكانت تشكل خزان بشري مدرب ومؤهل مع طاقات كبيرة خلاقة ، وكانت مساحتها ٢١٪من مساحة فلسطين التاريخية ، وعدد سكانها لم يتجاوز مليون ونصف ، أما الآن فقد تغير الحال ، فالمساحة مخترقة بالمستوطنات على شكل جزر تقتل اي حل ، القدرة الاقتصادية تراجعت بسبب إستيلاء إسرائيل عليها ، فالاقتصاد محطم ومنهك وبحاجة لمشروع مارشال ، عدد السكان قفز الى اربع ملايين جلّهم فقراء عدا عن المستوطنين ، أما الفلسطينيون فخسائرهم لن تُحصى بسهولة ، فسيفقدون هويتهم وأرضهم التي ناضلوا لأجلها عقود وبذلوا دونها عشرات آلاف الشهداء ، مقابل وعد بالرخاء الوهمي .
أما دولة الإحتلال وهي هدف المقال فلن تحصي مكاسبها بسهولة ، فهي ستلقي بعبء الفائض البشري الضاغط عليها ديمغرافياً وأمنياً الى دولة أخرى ، تضمن التخلص من تهديد المقاومة الفلسطينية وتعكس ذلك التهديد الى داخل الدولة الموعودة والتي ستغدو بالنسبة لهؤلاء دولة عميلة وغير شرعية ، طبعاً الوعد بأن تتحول تلك القوى من السلاح الى احزاب سياسية هو وهمي وبلا قيمة ، طبعاً ستضمن بقاء المستوطنات ، لا بل سيكون جزء منهم مواطنون في تلك الدولة وبالتالي تكون لها قوة تأثير مستقبلية ، طبعاً القدس ستكون على حالها كما تريد دولة الاحتلال ، سيخلق هذا الوضع الجديد بؤرة نزاع خطرة بين أقلية شرق اردنية وأكثرية من مواطنيه ذوي الأصول الفلسطينية ، طبعاً يقدم كتاب المقال حلاً لذلك من خلال بقاء القيادة الهاشمية وتوزيع متساوى للتمثيل السياسي طبعاً هذا حبر على ورق ستتغير المعادلة فور حصول الوضع الجديد وبتغير موازين القوة ، طبعاً سيكون السلاح هو الحكم ، فالدولة الموعودة ستمر بمرحلة الحرب الأهلية قبل أن تُحسم فيها الأمور ، وقتها ستحدد القوة على الأرض والتدخلات الخارجية من سيكون الفائز الخاسر ،
كُتاب المقال نسوا أو تناسوا في غمرة محاولتهم مساعدة كيان الاحتلال أن الشعب الفلسطيني يعاني من مشكلتين أساسيتين هما الاحتلال والإنقسام الداخلي ، لكنه أبداً لا يعاني من الغباء لا هو ولا الشعب الاردني ، ولن تنطوي عليه هذه الأحاييل التي تتلاعب بعواطفه ومخاوفه وتحاول أن ترسم مستقبل على مقاس الأحتلال بواسطة مأجورين همهم تحقيق إنجازات ولو على حساب أبناء وطنهم .