وليد حسني
انهيت بالأمس قراءة كتاب عن تاريخ الغراب، أو كما سماه مؤلفه بوريا ساكس" الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي"، وبالقدر الذي امدني فيه هذا الكتاب بخزان فائض من المعلومات عن هذا الطير القبيح الذي يرمز للخراب، فقد تلقيت وجبة طويلة من المتعة وانا اتصفحه قارئا وناقدا.
ظل الغراب يحتل مكانة لائقة به في ثقافات الشعوب الأولى، وانتقلت هذه المكانة الى باقي الثقافات الإنسانية، وليس من قبيل الترف القول بان الكتاب المقدس ومروياته المؤسطرة هي التي تولت نقل تلك المكانة وإشاعتها في تلك الثقافات الكتابية، بينما تختلف صورة الغراب قليلا في الثقافات الشفاهية.
تتجسد صورة الغراب في الثقافة العربية ما قبل الإسلام في المرويات الشعرية وفي كامل ما حفظته لنا الثقافة الشفاهية العربية السابقة على الإسلام"ولا اقول الجاهلية" فإن دلالات الغراب ظلت مرتبطة برمزية الخراب والموت والدمار، وهذا ما أبرزه الشعر في تلك الحقبة ولن أحيل اليه هنا، لكن الغراب بالمقابل ظل يرمز للحكمة في ثقافات اخرى.
ولست هنا بصدد التوسع في التعليق على ما ورد في الكتاب، فأنا هنا أقوم بدور القارىء الذي يضع ملاحظاته على الهوامش او في دفتر قراءته الخاص، إذ ان المؤلف لم يتطرق الى الدلالات الثقافية للغراب في الثقافة الإسلامية.
وفي القران الكريم وفي سورة المائدة تتلى قصة قابيل وهابيل ويظهر الغراب فيها بوظيفة الدليل الخبير لتعليم قابيل كيفية مواراة جثة اخيه الذي قتله ظلما وحسدا وطمعا" فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين"، لكن بالمقابل فان المرويات الحديثية المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام لا تستمر بمنح هذه المكانة للغراب فقد امر النبي بقتل اربعة فواسق ــ في روايات أخرى خمسة فواسق ــ إن شوهدت ، ففي صحيح مسلم"الحديث رقم 1198 " عن ام المؤمنين عائشة قولها" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أربع كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور".
هنا بدت القداسة التي ظل الغراب يتمتع بها لدى الشعوب الأخرى منزوعة تماما في النص الإسلامي المقدس، فقد تحول الغراب الى حيوان مدنس، في الوقت الذي كان فيه لدى بعض القبائل غير العربية طوطما معبودا.
وقبل القران والإسلام كان الغراب مثلا يحتذى ، ففي العهد الجديد فان الله يرزقه كما يرزق باقي المخلوقات، وكذلك في العهد القديم إذ تظهر صورة الغراب مغادرا سفينة نوح للبحث عن اليابسة باعتباره دليلا جيدا، وفي مرويات مختلفة فان نوح أرسل الغراب أولا وتردد ليعود الى السفينة، بينما في مرويات أخرى فان الغراب هو الذي غادرها ولم يعد اليها فدل نوح على ان ثمة يابسة يقترب منها.
لقد رافق الغراب كامل التحولات الثقافية والدينية والعقادئية والحضارية للإنسان، واليوم من المفيد التأكيد على أن الغراب أصبح يحمل دلالات اخرى في الحقل السياسي، ورمزية جديدة لا أقول إنه اكتسبها بفعل خطايانا بحق إنسانيتنا وعالمنا، وإنما نجحنا نحن باستعادتها من أساطير الأولين، وحكايات التراث المسلية، فها هو الغراب اليوم يستعيد رمزيته باعتباره دلالة على الخراب والدمار الوحشي الذي يشيعه الإنسان ضد إنسانية الآخر، كما أنه أصبح يحتل قائمة الرمزية الأولى للقتل والتوحش والإنذار بالخراب والإحتراب.، وليست غربان الإرهاب الداعشي عنا ببعيدة.
اليوم أصبح الغراب الرمز سيد كل شر، ونعيق كل داعية للقتل والإرهاب، والعدوان على حق الحياة للآخرين، ودلالة لكل شؤم، ودليلا للموت وللمقابر ومن هنا ظل الغراب لدينا في ثقافتنا العربية ما قبل الإسلام وما بعده رمزا لكل شيء سيىء.
بالنسبة لي تماما فإنني أرى الغربان في كل يوم، وأسمع نعيقها على أسلاك الكهرباء قرب منزلي، ولم أشعر في أية لحظة انني اكرهها او لي بها اية علاقة عدائية أو تشاؤمية، لكنني كنت ولم ازل اخوف من اخافه من الإنسان الغراب فذاك الذي يجب ان تخشاه وتتحاشاه وتشعر بالتشاؤم منه، وقد يكون الغراب الذي يرمز الإسلام اليه بالشر.. ربما..؟؟!!.//