الأنباط -
من "خُزَعبَلاتِ" الصادق إلى حقيقة الغاز.. "حين انتصر الإصرار على الصمت"
زهير الصادق صوت الحقيقة الذي هزم الإنكار
الأنباط – عمر الخطيب
لأعوام طويلة كان اسم د.زهير الصادق يستدعى كلما فتح ملف الغاز والنفط في الأردن لا بـ وصفه خبيرا يستمع إليه وإنما بـاعتباره (في نظر خصومه) صاحب "خزعبلات" أو مروج أوهام أو متفائل أكثر مما ينبغي في بلد اعتاد أن يسمع بأن أرضه فقيرة وباطنها صامت.
في ذلك الوقت لم يكن الصادق جزءا من خطاب رسمي ولا مستندا إلى منصة حكومية وإنما كان صوتا منفردا يكتب ويتحدث ويحاجج بـ الأرقام والدراسات الجيولوجية ويصر بـ (عناد الباحث) على أن الغاز موجود وأن المشكلة ليست في الجغرافيا، بل في القرار والإدارة وطريقة النظر إلى الموارد الوطنية، حيث دفع الصادق إلى الهامش وجرى التشكيك في طرحه ووصل الأمر إلى تسفيهه في بعض الأوساط واتهامه بتضليل الرأي العام، في وقت كان فيه ملف الطاقة يدار بـلغة واحدة وهي "الاستيراد قدر لا فكاك منه".
لكن اليوم وبعد سنوات من الجدل تعود قضية الغاز إلى الواجهة.. لكن هذه المرة من بوابة الحكومة نفسها وبلسان وزارة الطاقة وبلغة الأرقام والخطط والعطاءات لـتكشف أن ما قيل يوما على استحياء، وما وصف بأنه خيال بات حقيقة مثبتة بالدراسات والحفر والإنتاج وهنا لا يعود السؤال هل كان الصادق محقا؟ بل لماذا حورب؟ ولماذا تأخر الاعتراف؟ ومن يدفع ثمن السنوات التي أُهدرت بين التكذيب والإنكار؟
صوت خارج السرب
في مقابلاته وتصريحاته المتكررة لصحيفة الأنباط، كان د. زهير الصادق واضحا في طرحه مباشرا في لغته وحادا أحيانا لكنه ثابت في فكرته المركزية وهي الحديث عن الغاز والنفط ليس "شعوذة بل علم" ومن لا يريد أن يرى النتائج فلن تقنعه ألف دراسة، بيد أن الصادق لم يقل يوما إن الأردن سيصبح دولة نفطية عظمى لكنه أكد مرارا أن وجود كميات تجارية من الغاز أمر مثبت علميا وأن حقل الريشة تحديدا لم يُستثمر كما يجب، لا لـ ضعف الإمكانات ولكن لـ تذبذب القرار وتغير الأولويات.
وفي أحد أبرز تصريحاته لـ"الأنباط"، شدد على أن "بئر واحدة لا تعني شيئا والفشل في بئر لا يعني فشل الحقل فهذه أبجديات صناعة النفط والغاز"، كلام بدا بديهيا للمتخصصين لكنه لم يكن مرحبا به في سياق اعتاد الحلول السهلة وأن الاستيراد بدل المغامرة والعقود الجاهزة بدل الاستثمار طويل الأمد .
من التشكيك للتخوين.. كيف جرى التعامل مع الطرح؟
لم يتوقف الهجوم على الصادق عند حدود الاختلاف العلمي، بل تعداه إلى تشويه الفكرة نفسها ووضع الرجل في خانة المبالغة وجرى تصوير حديثه عن الغاز وكأنه دعوة لـبيع الوهم للناس في وقت كانت فيه فاتورة الطاقة تتضخم عاما بعد عام.
الصادق من جانبه لم يبدل خطابه ولم يبحث عن شعبوية الا انه بقي يكرر "من لا يحفر لن يعرف ومن لا يريد أن يعرف سيجد دائمًا مبررا للتوقف".
الحكومة تتحدث بلغة قريبة لـ السابقة
الا أن المفارقة اللافتة اليوم خطاب وزارة الطاقة والثروة المعدنية بات يحمل الكثير مما قيل سابقا على لسان الصادق وإن بصيغة رسمية أكثر تحفظا، الوزارة أعلنت في أكثر من مناسبة أن حقل غاز الريشة يشهد توسعا حقيقيا في عمليات الحفر والإنتاج المحلي من الغاز آخذ بالارتفاع تدريجيا وهناك برنامجا لـحفر الآبار الجديدة ضمن خطة واضحة المعالم، ليؤكد وزير الطاقة أن "نتائج الحفر مشجعة والكميات المكتشفة تدار وفق أسس اقتصادية وفنية بعيدا عن التهويل أو التقليل"... هذا التصريح في جوهره لا يختلف كثيرا عما قاله الصادق قبل سنوات، حين دعا إلى إدارة الملف بـعقل بارد لا بعين منكرة.
الدراسات ما بين الأمس واليوم
الصادق استند في طرحه إلى الدراسات الجيولوجية والجيوفيزيائية معتبرا أنها كانت موجودة لكنها حبست في الأدراج أو لم تُستثمر سياسيا واقتصاديا، لكن اليوم تتحدث وزارة الطاقة عن مسوحات زلزالية متقدمة، تقييمات فنية محدثة للمكامن، شراكات للحفر والاستكشاف، وهي ذات الأدوات التي طالب الصادق بتفعيلها مبكرا، وأن التأخير لا يلغي الحقيقة لكنه يؤجلها فقط.
ليس انتصار شخص لكن سؤال دولة
القضية هنا لا تتعلق بتسجيل نقطة لصالح شخص بقدر ما تفتح بابا واسعا للتساؤل كيف تدار ملفات الثروات الطبيعية؟ ولماذا يحارب الرأي المختلف بدل اختباره علميا؟ ولماذا ننتظر الاعتراف الرسمي حتى نقر بما كان مطروحا؟
د. زهير الصادق لم يكن (نبيا) ولا معصوما من الخطأ لكنه كان ثابتا على فكرة ثبت اليوم أن لها أساسا واقعيا، وفي بلد أنهكته فاتورة الطاقة ربما يكون الدرس الأهم هو أن الأفكار التي تكذب أولا تكون هي نفسها التي يبنى عليها القرار لاحقا بعد فوات الأوان .
وفي النهاية "خزعبلات" قيل إنها بلا سند إلى حقيقة تدار اليوم بعقود وخطط تبدو قصة الغاز في الأردن مرآة لـ طريقة تعاملنا مع المعرفة، الخبرة، الاختلاف، ليبقى السؤال مفتوحا لا للصادق وحده وإنما لكل من سبق زمنه بفكرة...
كم حقيقة أخرى تنتظر أن يعاد اكتشافها بعد أن ينهي الجميع حربهم عليها؟