الأنباط -
الإستقلال قصة وطن ...
سأحمل حقيبتي التي تحوي القليل وأهاجر فقد ضقت ذرعا بكل شيء هنا ، فلا فرص ولا حياة ولا مستقبل ، ولا تجد هنا إلا فئتين ، فئة تملك كل شيء وفئة لا تملك شيئا .
وتضيق الأرض بأهلها عندما تضيق أرزاقها ، وعندما تضيق أرزاقها تضيق اخلاقها ، ولا يدرك الضيق حقا إلا من جرب الغربة ، عندها تظهر الحقيقة ، من ظن أن الأوطان بنيت بالإحلام فليعد حسابه .
نعم قد ينعم الله بثروة نفطية هنا أو غازية هناك ، وقد يصل الأمر أن تكون هذه الثروات سببا في سعادة دول أو تعاستها أحيانا ، فما أن يظهر المال في مكان حتى يصبح مطمعا لكل قوة حوله ، ألم ترى أن الأرض كلما طابت خبث أهلها لأن الطيبين لا يقدرون على منافسة أهل الشر عليها .
وقد حدثت حروب واحتلال وقتل وإبادة للسيطرة على طرق التجارة أو الثروات في هذه البلاد .
ويبدو أن فقر الدولة وقلة امكانياتها يخلق تحديا لأهلها ، كما أن غنى الدولة وكثرة خيراتها يخلق تحديا أخر وقد يكون أكثر خطرا ، وتضطر الدول معه ان تضحي بحصة كبيرة في سبيل الإستقرار والأمان .
ولا بد في الحالتين من قيام أهل هذه الأوطان بالعمل الجاد والدؤوب للحفاظ على الوطن وامنه واستقراره ، ولا يتحقق ذلك بثمن بخس ، وهنا تتضح الصورة ويبدو المشهد بدون تجميل .
إذا قصة الأوطان هي قصة تحدي ، ولا بد من أن يكون أهل البلد على قدر التحدي ، حتى يستطيعوا الحفاظ على الوطن .
لم أعشق الغربة يوما ، ربما لأني كنت أميل قليلا إلى الأدب ، واطلعت على أدب المغتربين فرأيت فيه الألم والحنين ، حتى لشجرة جميز أو تين ، أو ذلك المفرق الذي كان ينتظر فيه بنت الجيران ، أو تلك العين التي كان لمائها طعم ليس له مثيل .
أو كما يقول رسول حمزتوف في بلدي " لا بد أن يسير الفارس راجلا قبل أن يخرج إلى الحرب ليرى العم والعمة والخال والجار وكل منهم يقوم بحركته في الحياة التي قد تتأثر بحركتك ، فإضبط حركتك حتى لا تنهي حركتهم "
نعم كل منّا يسعى لحركته الخاصة ، ويسعى ليجد لنفسه مكان هنا على هذا الأرض ، وربما تضيق بك الدنيا فلا ترى إلا مكان أخيك فتقتله ، لأن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربانك ، عندها تضيق بك الدنيا بما رحبت ، وتحمل وزر كل نفس قتلت بظلم بعدك .
هل قصة الوطن إلا قصة حب أو غيرة ، حسد أو تآلف ، وهل يقوم الوطن إلا بسلامة الصدر والإخاء والعمل والبذل والشجاعة والكرم .
عندما تنشر المدنية بذروها الخبيثة في النفوس تكون بداية النهاية ، عندها يقف السياسي لسياسي والعسكري للعسكري والفرد للفرد ، عندها يبدأ التناحر لا التنافس ، عندها ننظر إلى العيوب لا إلى القلوب ، وعندها نعشق النفس ونكره الأخر .
إذا قصة الوطن هي قصة المواطن ، والمواطن لا يكون مواطنا إلا بالتوطين على هذه الأرض وحبها وحب أهلها وحب الخير لها ولهم.
نعم لقد عاد المغترب يحمل حنينه وألمه وغربته وشيء في صدره لم يستطيع أن يتجاوزه ، فهناك مال في الغربة ربما ، وهناك حضارة ربما ، وهناك علم ربما ، وهناك جميلة ربما .
ولكنه عاد يحمل حنينه وحبه وعشقه وذكرياته ، وربما طعم ماء تلك العين هنا قد تغير ، وربما ذلك المفرق لم يعد هناك ، وبنت الجيران قد تزوجت وأنجبت ونسيت حتى أسمه وشكله ، ولكنه عاد لأنه يحمل حنينه وذكرياته ، ولا يستطيع أن يجد نفسه إلا هنا ، حتى وهو في الغربة كان يبحث عن أكلات وطنه ، عن زيت وطنه ، عن أي شيء بلدي سمسم بلدي او سماق بلدي ، ولكنه كان يبحث عن بلدي .
وصدق رسول حمزتوف عندما سمى رواياته الشهيرة بلدي ، فقصة بلدي ليست قصة تروى ولا كلمات تقال ، ولكنها قصة عشق وعمل وبناء وتربية الأبناء على حب هذا المكان ، على عشق هذا المكان ، على ربطه بالذكريات وتلك الشجرة وذلك المفرق وتلك العين ، وعلى أن لا يجد زوجة إلا بنت الجيران ، فهي من تربي جيلا يحمل العادات والحب والمكان ويحفظ الأوطان .
لذلك عندما تحمل معولك وتتجه لأرضك وتزرع سنديانة ستبقى تلك السنديانة هنا ، ستبقى تروي قصتها لجيل بعد جيل أن هناك محب غرسها هنا وبقيت هنا ، فقد غرست في تراب هذا الوطن .
إبراهيم أبو حويله ...