الأنباط -
الكتابة بين الجثث – قُبلة على جبين غزة في الذكرى ال 76 للنكبة
بقلـــم عيــــسى قراقـــع
إنها قوة الفعل مع قوة الكلمات ، الحكايات التي ترويها الجثث في غزة ، جثث الشهداء وقد ملأت الأرض والسماء والعقول ، وهناك حيث لا سفينة ولا ملاذ ، أعاصير النار والقذائف وعواصف الموت في كل مكان ، وهناك تستخدم اللغة بديلاً عن الصراخ ، تبحث عن الكلمات بديلاً للتوابيت ، تكتب وسط الإنفجارات والجثث المتفسخة ، وسط الوحل والمقابر الجماعية ، تكتب في زمن العار والإنحطاط والحثالة ، تكتب بحبر الشقاء والمجاعات والحصار الخانق ، إنقراض البشر والعائلات في العصر الصهيوني البشع ، تعجز القصيدة عن لملمة الأجساد المتناثرة ليكون للإيقاع قواماً وقافية ، وتعجز الجثة عن تذكر إنهيار المنازل وتشقق الأرض ، وخليط الغباروالتراب والدم ليكون للراوي في ذكرى النكبة ذاكرة تكتب عن ذاكرة
يمسك القلم أصبع مبتور ، قلم من فحم ، رجفات ، وشهقات وطلقات وسجل للحطام ، وأنقاض الخراب ، يبدأ بتسجيل سيرة الموت الأعلى بخط أسود على صفحات الرمل ، القذيفة الأولى أصابتك في الرأس فسال حبر الوعي والدم ، القذيفة الثانية أصابتك في السؤال الثقافي والإنساني وأنت ترتطم على حافة الهاوية بين الحضور والغياب ، القذيفة الثالثة دمرت فيك الزمن القديم محاصراً بين محرقة ومنفى وسجن وقبر .
أدعو الكتاب الفلسطينيين لتدوين أدب الجثث قبل أن تذوب وتضيع تحت الركام وتجرفها الجرافات ولجان الإعمار وقبور الأرقام والثلاجات الباردة ، أحفروا القبور الجماعية ، أحفروا تحت الإسمنت والحديد ، فكوا قيود الموت عن جثة طفل صغير يحمل دميته القطنية وينام في السرير ، فكوا قيود الموت عن إمرأة تعد فطورها في المطبخ ولا زال غاز الطبخ مشتعلاً ورائحة الملوخية ، فكوا قيود الموت عن درس الحساب في المدرسة الإبتدائية التي إنهارت فوق طلابها في الحصة الثانية ، فكوا قيود الموت عن أسير عذبوه مقيداً ومعصوباً وربطوه بحبل الموت والتعذيب في جحيم المعسكرات الدموية ، فكوا قيود الموت عن جثث مبتسمة لهذه العائلة المبادة المطمورة تحت منزلها المدمر، اكتبوا أدب الجثث ولا تنتظروا أن تقام المتاحف للموت في غزة ، ولا تنتظروا أن يصير أدب الجثث نصوصاً ساحرة.
نحن الفلسطينيين نكتب تحت تهديد الموت مترقبين مجيئه في أية لحظة ، ولكننا نمارس الكتابة في الخراب للكف عن رهن الموت بالمستقبل، وقبوله دون جعله حاضراً، ودون المثول له والتعرف عليه في النسيان الذي يخلفه بآثاره، عندما تأخذ الكتابة زمناً من الموت وزمناً من العيش معاً، لأن الكتابة عن الموت هو طرد الموت.
إتخذنا القرار المميت لنكتب ، حتى يتساوى الحي مع الميت ، الناطق مع المنطوق ، نكتب من غزة روايتها الطويلة لنقول للعالم أن الكتابة فعل موت عاجز عن الممات ، نكتب عن حبة تمر تنمو خضراء خضراء في قبضة يد لجثة مدفونة تحت الأنقاض ، لقد تفاعل الحبر مع الدم والتراب في ساعة الآذان في شهر رمضان ، فلم يعد الموت تفريغ الحاضر والماضي من الحياة ، وإنما في الموت تصل الحياة ذروتها ، الكتابة في غزة ميلاد .
إن الموت يسيطر علينا ، نراه معنا وفينا ليل نهار ، يأخذنا إلى البعيد وينفجر فينا ، لكن هيمنته تتأتى من خلال إستحالته ، نكتب فيتوقف الموت ، يفيق الموتى قبل أن يموتوا ، نسمعهم ونضمهم ، نسمع حديث الصمت لأول مرة فيلتحم الوجود مع الفراغ.
نكتب بين الجثث ، الكتابة هي العين المحملة بكل ما رأته من كوارث ، نكتب بعيوننا المستيقظة دوماً ، أنظروا في حدقات جثثنا ، ترون غزة من الشمال إلى الجنوب ، تروننا أحياء من الجليل إلى النقب كأننا ألف مستحيل ، الكتابة تمزق الغلاف الكئيب عن الميت والذكريات ، تخرج من سرادق الدفن والنيران وطمس التاريخ ، نخرج بالكتابة من العزلة وكآبة الرثاء ومن المدينة المتشظّية ، نجترح بالكتابة كل مشتقات الموت حتى يذوب الموت ويتلاشى ، لا نقبل أن ينتهي كل شيء ، فالحياة تمضي ، الحياة نحن الباقون الذين نواجه آلة الحرب برفض الهزيمة والفناء.
نكتب لأنه حقاً نقوم من الموت ، فكل الثورات والحضارات بدأت بكلمة في قصيدة أو بيان في مظاهرة، ونمضي إلى أقصى المخيلة، لنا سماء فوق السماء ، وجدار بعد الجدار ، نمضي الى الوجود الحر ومطلق الأشياء، نكتب لتصير الكتابة لباسنا الدافيء الواقي للكرامة والمقاومة.
نكتب بين الجثث ، وسط القهر والرعب ، ولكن من يكتب لا يُهزم فالحرية الحقة لا تكون إلا في الموت ، فبعض الموت حياة ، نكتب كل يوم لنشطب الدمار والنكبات المتسارعة ، نزرع الحدائق ونغني للأطفال ، نسمعهم في ذواتنا كصوت البحر.
نكتب من غزة باللحم والدم والجوع والعظام الناشفة ، قبلة على جبين غزة في الذكرى السادسة والسبعين للنكبة ، ما الذّ الكتابة عندما تكون غزية المذاق، الكتابة في غزة تبني مكاناً في المكان ، وزمناً في الزمان ، الجثة هي الراوي ، ومن أجدر بالموت من الحكي الآن ، للموت لسان وعيون باهرة ، وقد فاضت الكلمات بالفجيعة ، تلك العيون التي تجيد التحديق في الكارثة ، وتعري العالم من كافة الأقنعة.
نكتب بين الجثث لنرى صورتنا فيها ، القارىء والكاتب ، القاتل والمقتول ، جميعهم يلتقون في نص غزة ، القارىء عليه أن يعيش النص ليخلقه وينتجه من جديد وعياً وفكراً وممارسة ، إنها فاعلية الكتابة وسط الجحيم والخراب في غزة ، نكتب بالنيران المشتعلة في أصابعنا ، نرفض الموت لهذا نكتب ، نحرك الكلمات حتى لا يتحول النص الى تابوت ، نحرك جثثنا في الكتابة كي يتحرك الهواء من حولنا ، حينها نشعر بالحرية.
نحن الفلسطينيين نتحرر من الموت بالكتابة ، ونحرر الموت من الموت ، سواء تكلمنا أم صمتنا فقط تكلمنا ، وصارت الكتابة هي البيت ، نحن نتكلم بإستمرار من غزة حتى لو لم ننطق بكلمة ، نكتب غزة بيدنا، بجثثنا، بموتنا، لهذا أصبحت كتابتنا عالمية ، اللغة الإنسانية تفوقت على الإنفجارات المرعبة وهستيريا الفاشية، أنا أكتب لأني لا أزال حياً ، الكتابة في الحرب جمال يعيد تأثيث ما شوهته هذه الحرب في نفوسنا.
نكتب من غزة ، نسير بين الجثث ، نخرج من بين الجثث ، ننام مع الجثث ، وكم تعاني الكتابة لتصل إلى قطعة خبز أو قنينة ماء أو كتاب أو ورق ، كل شيئ قد إحترق ، وكم تتكبد من المشاق لتلملم أشلاءها ولغتها المتفسخة لتصل إلى قبر أو خيمة أو شفق ، وها نحن نتخلص من إعياء الجسد بالكتابة ، لهذا نكتب بالأنفاس والأرواح ونكون وجهاً لوجه مع الحقيقة ، نحن في غزة نمارس فن الموت ونتعلم كيف نموت بكبرياء .
نكتب بين الجثث عن الحب والعشق الصوفي في حنايا القلوب وعناق الجثث ، تجتمع الأرض والسماء وتصبح غزة هي المعبد ، نجري بين الغارات والصواريخ لنخطف قبلة عن جبين غزة هذا المساء ، نعطيها فرصة أخرى لترتيب زفافها وسط طواحين الموت ، تلبس أجمل الثياب وهي تستعد للحياة القادمة.