كتبت هذه المقالة في بداية العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك سنة 1445 للهجرة، في الشهر الثالث من العام الميلادي 2024، وقد شارفت حرب الإسرائيليين على غزة هاشم في أرض فلسطين شهرها السادس دون نجدة من العرب والمسلمين لإخواننا إلا من شيء يسير من الغذاء والدواء لا يدخل إلا بسماح أو غض طرف من العدو.
قدمت بتلك المقدمة أعلاه رجاء أن يحفظ التاريخ فيما يحفظ هذه الورقة لتكون شاهدا على جيلنا تقرؤه الأجيال القادمة من الأمة فتعتبر بما كان من حالنا وكيف كنّا نتداول أمر هذا المصاب الجلل الذي حاق بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
لا يكاد يختلف اثنين من العقلاء سليمي الدين والضمير على وصف ما يحدث في أرض فلسطين من تكالب العدوان عليها من دولة يهود "إسرائيل" وداعميها من الغرب أميركا وأوروبا، كما لم يعد خافيا تواطؤ وخذلان الأنظمة المستبدة من أنظمة العرب مع العدو ضد إخوتنا وتركهم للقتل والجوع والمرض، لكن سيبدو الاختلاف ويظهر التباين في وجهات النظر حول ما عدا ذلك من أسئلة يطرحها واقعنا العربي.
متى تنتهي الحرب؟ ومن يملك أن ينهيها؟ وما النتائج التي ستحصل بعد انتهائها؟ وكيف سيتعامل من اعتدى ودعم العدوان ومن تواطأ وخذل أخوتنا مع نتائج الحرب بعد توقفها؟ ومتى ستنشب الحرب القادمة؟ وهل سيتكرر كل ما حصل مرة أخرى؟ وماذا أعددنا لكل ذلك؟
إسرائيل تريد إنهاء حالة الصراع الدائمة والمزعجة مع الفلسطينيين لتبدأ مرحلة التغلغل السلس والهادئ في البلاد العربية وإدماج نفسها في المنطقة ككيان طبيعي بفعل الأمر الواقع،
هذه الأسئلة وغيرها سيجيب عنها ستة أطراف محتملة، الأول الاحتلال الإسرائيلي، الثاني الداعمين للاحتلال دعما مباشرا سواء أميركا أو دول أوروبية، الثالث الأنظمة العربية عامة وما يسمى دول الطوق خاصة، الرابع الدول الإقليمية والعالمية التي تحاول التأثير والتدخل في المعركة خدمة لمصالحها مثل إيران وأذرعها في المنطقة وتركيا وروسيا والصين، الخامس المجاهدون من الحركة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي وبقية الحركات والمجاهدين في أرض فلسطين، وفي الأخير حيث أنزلنا أنفسنا هذا الترتيب تأتي أمة العرب طرفا سادسا.
والآن، لنتصور الحل من خلال منظور تلك الأطراف ثم لنتفكر ونمعن النظر، ثم تكون لنا كلمة:
الطرف الأول: الاحتلال الإسرائيلي
ربما من البديهي أن العدو الإسرائيلي يتمنى ما تمناه رئيس وزرائه السابق وأحد مؤسسي الكيان المحتل إسحاق رابين حين قال مرة في تصريح له: "أتمنى أن أستيقظ ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر"، وقد طرح ساسة العدو عدة مرات مشاريع تهجير الفلسطينيين جميعا ليس فقط أهل غزة، بل أن سياسات الاحتلال على الأرض من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات حتى في الضفة الغربية جارية على قدم وساق ولم تتوقف.
وليس بعيدا منذ أول أيام الحرب على غزة الحديث والخطوات العملية التي بدأت فعلا لإنهاء المعركة بتهجير أهل غزة إلى رفح في الجانب المصري من أرض سيناء.
إن إسرائيل تريد إنهاء حالة الصراع الدائمة والمزعجة مع الفلسطينيين لتبدأ مرحلة التغلغل السلس والهادئ في البلاد العربية وإدماج نفسها في المنطقة ككيان طبيعي بفعل الأمر الواقع، وهي ما كانت تسير فيه حثيثا بما يسمى قطار التطبيع الذي اخترق مؤخرا المنطقة الخليجية في ظل تهميش حل القضية الفلسطينية وتأجيله حتى إشعار آخر، لولا أن انفجر سد غزة عن طوفان هادر في السابع من أكتوبر من العام الماضي، ليجرف قطار التطبيع فيوقف تقدمه.
وفي حال انتهت الحرب ولم يتمكن العدو الإسرائيلي من تنفيذ خطته، سيحرص على أمرين أشد الحرص وستكون هي معركته القادمة التي لا تقل بشاعة عن حربه اليوم، الأمر الأول سيعمل على تعطيل إعمار غزة وسيضيق على أهلها ليجعل ما يمكن إنجازه في سنة يستغرق عشر سنوات أو أكثر عقابا لغزة وأهلها، والأمر الآخر لن يدخر وسعا في ملاحقة المجاهدين وإضعاف قدراتهم القتالية، حتى يضمن ألا يتكرر السابع من أكتوبر أبدا، وسيجد داعميه الدوليين والأنظمة العربية المستبدة أحرص منه على ذلك ولن يدخروا وسعا في معاونته فيما يريد.
الطرف الثاني: الداعمين الدوليين خاصة أميركا وبعض الدول الأوروبية
ليس بالضرورة أن تكون تطلعات داعمي إسرائيل بمستوى طموح إسرائيل ورغباتها، فالدول الداعمة لإسرائيل ترى فيها مصلحة إستراتيجية تدركها إسرائيل نفسها، وذلك كما صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قائلا: "أوروبا بحاجة إلى إسرائيل التي تقوم بدور مركزي في استقرار الشرق الأوسط ولجم الإسلام المتطرف"، فضلا عن البعد العقائدي الذي صرح به الغربيون في أكثر من مناسبة، وأكثرها صراحة تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن حين قال: "أنا صهيوني وهذه حقيقة لا أعتذر عنها" وقال أيضا: "لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها".
هذا المزيج في موقف أوروبا وأميركا بين ما هو مصلحة إستراتيجية وثقافة عقائدية يمكن رؤيته بالدعم غير المنقطع للعدوان الإسرائيلي منذ بداية الحرب، وقبل أن تتراجع بعض الدول الغربية تراجعا محدودا تحت وقع الاحتجاجات الشعبية، وتغير المزاج العام في بلادها ضد إسرائيل ووحشيتها، وبعد اتضاح عناد نتنياهو الذي يفضل مصلحة بقائه السياسي على مصالح الغرب وأميركا الإستراتيجية.
إن هذا التباين في التفاصيل وإدارة المعركة بين وجهة نظر وعناد نتنياهو وبين مصلحة الغرب وأميركا الداعمين لإسرائيل "الكيان" ينعكس أيضا في التصور لما بعد المعركة، حيث يفضل الغرب وأميركا سياسة احتواء الفلسطينيين وإعطاؤهم ما تسمى "دولة قابلة للحياة" منزوعة السلاح لا تشكل تهديدا لإسرائيل، باعتبار إسرائيل آخر "قلعة صليبية" يديرها يهود، وقاعدة استعمارية وريثة لاستعمار القرنين التاسع عشر والعشرين.
ما يسمى دول الطوق التي لا تخلو بالضرورة من صفات العجز أو التواطئ إلا أن لها خصوصية التماس مع فلسطين، فهي و بالرغم من اختلافها بين ما يسمى "محور ممانعة" و "محور اعتدال" إلا المحورين جميعا يشتركان في أنهما يتعاملان مع القضية الفلسطينية تعاملا مشروطا أقرب لرعاية مصالحهم من مصلحة حل قضية فلسطين واستعادة الحقوق.
الطرف الثالث: الأنظمة العربية بتنوع مواقفها و"دول الطوق" خاصة:
يمكن تقسيم الدول العربية لأقسام بناء على اختلاف مواقفها وإن كان العامل المشترك بينها جميعا افتقادهم القدرة على التأثير في حل القضية الفلسطينية واسترداد الحقوق، كما لا يخفى على أي عربي من المحيط إلى الخليج، إلا أنه لابد من هذا التقسيم لإيضاح الصورة.
الدول العاجزة: وهي مجموعة من الدول العربية تفتقد لأي إمكانيات حقيقية أو وزن ذو قيمة قادرة على تحسين ظروف المعركة لصالح الفلسطينيين، وهذا العجز له صور وأسباب كثيرة متنوعة، منها افتقاد تلك الدول للوزن الإستراتيجي القادر على التأثير الحقيقي على مصالح الدول الكبرى، وحتى بعضها الذي يملك وزنا في مصادر الطاقة لا يملك استقلالا في القرار يسمح له باستخدام تلك الورقة أو ضعيف لا يتحمل مواجهة عواقب استخدامها، فضلا عن البعد النسبي جغرافيا عن خطوط التماس مع العدو الإسرائيلي مما يعيق القدرة – إن وجدت الرغبة والإرادة- للدعم المادي غير المسلح للفلسطينيين.
الدول المتواطئة: وهي الدول التي وصل بها الحال لدعم العدو الإسرائيلي بما يحتاجه من مواد ومؤنة أو غاز وطاقة، كما أنها ترى في الجهاد والمجاهدين خطرا يهدد السلم الدولي يجب القضاء عليه، وهذه الدول هي التي فتحت للعدو الإسرائيلي الطريق البري بعد أن تعثرت الطريق البحرية بسبب هجمات جماعة الحوثي في اليمن، وهي الدول التي تمد العدو الإسرائيلي بالغاز والطاقة وماضية في اتفاقياتها معه، كما أنها الدول التي تستخدم إعلامها الرسمي وغير الرسمي للترويج لوجهة نظر الاحتلال الإسرائيلي على حساب فصائل الجهاد الفلسطيني.
أما ما يسمى دول الطوق: التي لا تخلو بالضرورة من صفات العجز أو التواطئ إلا أن لها خصوصية التماس مع فلسطين، فهي و بالرغم من اختلافها بين ما يسمى "محور ممانعة" و "محور اعتدال" إلا المحورين جميعا يشتركان في أنهما يتعاملان مع القضية الفلسطينية تعاملا مشروطا أقرب لرعاية مصالحهم من مصلحة حل قضية فلسطين واستعادة الحقوق، فمنهم من جعل من بلده ممرا للنفوذ الإيراني وخدمة لأجندته ومنهم من يساهم في تعزيز أوراق الضغط الإيرانية بإشعال محدود على جبهته، ومنهم من يشارك في المفاوضات لعقد هدنة مع العدو، ومنهم من يسهم في التنفيس وامتصاص الغضب الفلسطيني وضمان عدم انفجار الضفة الغربية.
هناك مصلحة مشتركة تجمع تلك القوى الأربعة الدولية والإقليمية، تلك المصلحة تتلخص في تقليص التواجد والنفوذ الغربي الأميركي في المنطقة العربية خاصة المشرق العربي لحده الأدنى أو ذهابه بالكلية إن أمكن ذلك.
الطرف الرابع: الدول الإقليمية والعالمية
لا يخطئ المراقب في ملاحظة التناغم بين محور آخذ في التشكل منذ مدة يحاول مزاحمة النفوذ الغربي والأميركي في المنطقة العربية، وهذا المحور برعاية المصالح الروسية والصينية المشتركة، وتجلى هذا المحور في شبه التطابق في الموقف بين روسيا والصين في قرارات مجلس الأمن واستخدام "الفيتو" المزدوج والمنسق بين البلدين في مواجهة "الفيتو" الأميركي، كما لا يخفى تنسيق وتناغم الدول الإقليمية في المنطقة ”إيران" من جهة، و ”تركيا" من جهة أخرى مع ذلك المحور وإن بدرجات متفاوتة، فكل تلك القوى الأربعة دولية وإقليمية تحاول الاستفادة من حالة الصراع في المنطقة واستغلال التورط الأميركي فيها والزيادة منه، خاصة مع تجارب قريبة ناجحة تورطت فيها أميركا في أفغانستان والعراق واستغلت تلك القوى تلك الورطة الأميركية واستنزفتها.
هناك مصلحة مشتركة تجمع تلك القوى الأربعة الدولية والإقليمية، تلك المصلحة تتلخص في تقليص التواجد والنفوذ الغربي الأميركي في المنطقة العربية خاصة المشرق العربي لحده الأدنى أو ذهابه بالكلية إن أمكن ذلك، فالتمدد الإقليمي لقوى الإقليم ممكن متى ما انحسر النفوذ الغربي الأميركي، خاصة مع فراغ وهشاشة الوضع العربي العاجز عن صد أي تمدد لأي قوى في المنطقة أو قادمة إلى المنطقة، كما أن القوى الدولية الصين وروسيا ستكون مرحبة جدا في أن تزاحم وتناكف النفوذ الغربي الأميركي في المنطقة بأقل التكاليف من خلال قوى إقليمية طموحة لملء الفراغ وزيادة النفوذ.
إن تلك القوى الأربع لن تجد قضية تجمع العرب وتشد عاطفتهم وتستميلهم بعدالتها وشرعيتها أكبر من القضية الفلسطينية، فهي المدخل السهل والأخلاقي للمنطقة، ومن خلال نقاء هذه القضية تغسل تلك القوى مختلف جرائمها في الوطن العربي والعالم الإسلامي أو تحاول، إذن المصلحة في دعم القضية الفلسطينية حاضرة بقوة لتلك القوى إستراتيجيا وخطابيا سياسيا.
هذه القوى ترى حل القضية الفلسطينية من خلال قرارات الأمم المتحدة كافيا متى ما استطاعت إبعاد التواجد الغربي الأميركي عن المنطقة أو الحد من تأثيره، فهي قوى لا تمانع بل بعضها يحرص مثل روسيا والصين على بقاء دولة الاحتلال الإسرائيلي بأمن وسلامة ضمن القرارات الدولية، كما أن تلك القوى تنظر للجهاد الفلسطيني كأوراق ضغط وأدوات إزعاج للتواجد الغربي أكثر من كونها حركات تحرير للأرض والمقدسات.
إن تلك القوى الأربع باختلاف بواعثنا ومنطلقاتها لن تقبل وجود قوة عربية مستقلة تملأ الفراغ وتعاملهم بندية تفرض مصلحتها كأمة لها تاريخها ودورها الحضاري، فلا يعني عند تلك القوى بحال من الأحوال أن الحد أو إبعاد النفوذ الغربي الأميركي عن المنطقة أن يحل محله المصلحة العربية بأبعادها الأممية الحضارية، ومن هذا المنظور الإستراتيجي الحضاري تنظر تلك القوى للقضية الفلسطينية كأداة ظرفية لا كقضية عقائدية إستراتيجية عربية.
الطرف الخامس: الخامس المجاهدون في أرض فلسطين
إن المثال المعجز الذي تتمثله الحركة الجهادية في فلسطين بمختلف فصائلها وحركاتها يعد نموذجا نادرا إن لم يكن فريدا في التاريخ، نظرا للظروف التي مرت وتمر به القضية الفلسطينية من أكثر من قرن من الزمان، أي منذ الانتداب الاستعماري على أرض فلسطين سنة 1920 ميلادي، فلقد مرت الحركة الجهادية بعدة أطوار تاريخية وظروف متقلبة الثابت الوحيد فيها هو إصرار الفلسطينيين على القتال ورفض الواقع الذي يراد لهم البقاء فيه والقبول به.
إننا لو رسمنا رسما بيانيا يوضح العلاقة بين الاحتلال الإسرائيلي والمجاهدون المقاومون له لن تخطئ قراءتنا تنامي حركة التحرر الفلسطيني ومضاعفة قدراتها وتأثيرها مقابل تراجع وانخفاض قدرة الردع للاحتلال الإسرائيلي طوال عقود، إلى أن جاءت لحظة الانكسار الأولى في معركة سيف القدس عام 2021، حيث وللمرة الأولى تبادر الحركات الجهادية في فلسطين بالحرب على الاحتلال لتوقف اعتداءاته على المسجد الأقصى المبارك، ثم أعقب تلك المعركة أكبر عملية خداع إستراتيجي ومباغتة عسكرية للعدو المحتل منذ احتلاله فلسطين في معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023.
لكن مع الأسف الشديد رغم هذا التطور المتصاعد للمقاومة، تأتي هذه المبادرة البطولية في ظل انكشاف ظهر المجاهدين من أي ظهير عربي وإسلامي يدعم دعما حقيقيا مؤثرا في نتائج المعركة، بل إن الحركة الجهادية في فلسطين تقاتل وهي محملة بعبء كبير من التخاذل والتواطؤ العربي ثم الإسلامي.
إن الثبات واليقين التي تضرب الحركة الجهادية فيه أروع المثل، قصر عنه المدد والتآزر المفترض من الأمة العربية والإسلامية، وهذا سيجعل الوقائع على الأرض ونتائج المعركة لن تحقق الأهداف الطموحة العادلة بتحرير فلسطين مادام ظهر المجاهدين مكشوفا لهذه الدرجة، وإن تحققت نتائج غير مسبوقة وغير عادية في ظل هذه الظروف الغاية في الصعوبة.
إن انتهاء هذه الحرب بالنسبة للمجاهدين في غزة وتضميد الجراح وبقاء المقاومة وترتيب صفوفها وخروج المحتل وإبرام صفقة تبادل للأسرى وإعادة الإعمار، هو طموح المجاهدين اليوم، وهو وإن رأيناه صعبا إلا أننا نتوقعه مادامت راية المجاهدين مرفوعة في ساحة المعركة، وهنا لعلي أدخل في حساباتي عاملا ربما لا يجد البعض فيه موضوعية وتجردا، ويحسبه عاملا تقترحه العاطفة والرغبة، ألا وهو عامل الإيمان بالله والتوكل عليه، هو عامل ضروري في حاسبات المؤمنين الذين يعتقدون اعتقادا راسخا أن العناية والتقدير الإلهي والتعلق بوعده لمن ينصره بالنصر، إنه العامل الوحيد القادر على تفسير هذا الصمود المعجز طوال ستة أشهر لفئة قليلة العدد متواضعة العدة في مساحة صغيرة من أرض مكشوفة أمام عدو مجرم متجبر يمده داعميه بكل ما يحتاجه ليواصل حربا في موازين البشر يفترض أن تنتهي بفترة وجيزة لصالحه في مثل هذه الظروف، لذلك كان الإيمان بنصرالله وتأييده هو العامل الوحيد الحقيقي الراسخ وما الأسباب الأخرى جميعها إلا ظن موهوم نلتزمه امتثالا و تعبدا لا تعويلا واعتمادا.
لا يمكن أن نخرج من هذا المأزق التاريخي الذي دفعنا وندفع ثمنه من دمائنا التي تسفك على أرض فلسطين المباركة، إلا باستعادة دورنا في الواقع والتاريخ كأمة عربية موحدة من المحيط إلى الخليج تحمل رسالة الإسلام التي نزلت بلسانها
الطرف السادس: أمة العرب
إن العرب هم الطرف الوحيد الغائب في معركتهم الحاضرة في فلسطين، وإن الحقيقة الماثلة أمامنا ومن خلال النظر للأطراف الخمسة في المقالة نجد أننا غير ممثلين أصلا في أي من تلك المشاهد والموازين فضلا عن الفعل والتأثير، إننا بطبيعة الحال لسنا ضمن الطرف الأول العدو الإسرائيلي، ولسنا الطرف الثاني من داعمي الاحتلال مثل الغرب وأميركا، كما أننا لسنا الطرف الثالث المتمثل في النظام العربي الرسمي بقسميه العاجز والمتواطئ، والطرف الرابع الذي هو القوى الدولية المناكفة للغرب وأميركا والقوى الإقليمية إيران وتركيا يروننا الفراغ الذي يطمحون لشغله، وللأسف لسنا في الجبهة مع إخوتنا المجاهدين بل نراقبهم من بعيد، قلوبنا معهم وسيوفنا صادرتها جيوش الأنظمة العربية لتسلها علينا متى فكرنا في نجدة إخوتنا.
ندخل في جدل فيما بيننا حول مقاطعة البضائع الداعمة لعدونا، ونتجادل في جدوى المعركة، ونلوم بعضنا على استمرارها، وبعضنا ينتظر أميركا وبعضنا يناشد المنظمات الدولية، وفريق منا يحث الأخرين على استمرار نشر المصاب وصوره المؤلمة طلبا لاستمرار الاهتمام، وآخرين يجتهدون في مخاطبة الغرب بلغاتهم آملين تعاطفهم، نجتهد اجتهاد من يحترق بيتهم فهم متفرقين كل بما طالت يداه يحاول اخماد حريق لم ينطفئ منذ قرن من الزمان، فإلى متى؟
الأمر الجامع
"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه"
لا يمكن أن نخرج من هذا المأزق التاريخي الذي دفعنا وندفع ثمنه من دمائنا التي تسفك على أرض فلسطين المباركة، إلا باستعادة دورنا في الواقع والتاريخ كأمة عربية موحدة من المحيط إلى الخليج تحمل رسالة الإسلام التي نزلت بلسانها، رسالة حضارية فريدة تقود البشرية لعالم تملؤه عدلا بعد ما ملأته الحضارة الغربية المادية ظلما وجورا.
هذا "الأمر الجامع" ليس خطبة ولا أمنية، بل فكرة تخلص إليه هذه المقالة بعد ذلك الاستعراض الطويل لواقعنا الذي نغيب عنه ويتحكم فيه غيرنا، إننا نحتاج أن نجتمع على الفكرة أول الأمر ونؤمن بها، ثم كل يعمل ما باستطاعته أفرادا وجماعات لتحقيقها.
إن هذه الفكرة تضع ثلاثة حلول لثلاثة مشكلات كبرى نحن عالقون فيها، وهي:
الحل الأول الإيمان والسعي لإيجاد تمثيل جامع للأمة العربية، وهذا الحل في مواجهة مشكلة التفرق على يد الأنظمة العربية العاجزة أو المتواطئة، كما هو حل قادر على مواجهة الهجمات التي يجتمع فيها أعداؤنا علينا، وهو أيضا حل لمشكلة الفراغ الذي يغري القوى الإقليمية والدولية في منطقتنا، ففكرة الوحدة العربية بقيام دولة عربية جامعة للعرب ليست فكرة شاعرية بل هي ضرورة وجودية وحاجة واقعية لابد من السعي عمليا لتحقيقها.
الحل الثاني هو اعتماد منطلقنا الحضاري العريق والممتد أربعة عشر قرنا وهو الإسلام ونظامه، بديلا حضاريا عن مشكلة مأزق النموذج الغربي وحضارته المادية، فلا يمكن لأمتنا العربية وحضارتنا الإسلامية أن تحشر في ثوب الحضارة الغربية ومنطلقاتها الفلسفية والفكرية على مختلف الصعد بداية بالسياسة والاقتصاد وانتهاء بالتشريعات والحياة الاجتماعية، إذن علينا المناداة بكل إيمان بأننا أمة تقدم بديلا مختلفا عن الواقع ولسنا أمة تساير الواقع المفروض عليها.
الحل الثالث هو اعتماد القوة في إقامة الحلين السابقين، إن القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم، إن أي أمة لم تبعث في التاريخ بدون الأخذ بأسباب القوة والاستعداد للتضحية في سبيل قيامها، إن العالم لن يفسح لنا الطريق عبر دعاوى السلمية وصناديق الاقتراع لنزاحم مصالحه ولنقطع اليد المعتدية على أمتنا، لكننا بالقوة سنفرض وجودنا أمرا واقعا كأمة ذات حضارة واجبة الاحترام من الجميع.
إن هذه دعوة لاجتماعنا على "أمر جامع" على مستوى الفكرة بحلولها الثلاثة لمشكلاتها الثلاثة، ثم مد جسور التعاون والتواصل لتحقيقها وقيامها، لا نختلف حولها ولا نتجادل فيها، بل ينصب جهدنا لإقامتها وإن اختلفت أساليبنا وطرقنا، إننا إن حققنا وحدتنا العربية في ميدان الفكرة سنصنع نهرا لابد وأن يحفر مساره ويخط طريقه حتى يبلغ غايته التي لا تتوقف عند رد العدوان عن إخوتنا في غزة، بل ستكمل معهم المسير حتى يصب موج طوفاننا الهادر من المجاهدين في ساحات المسجد الأقصى.