الأنباط - سعيد الصالحي
كانت الرحلة نحو الحظيرة أكثر خطورة من الرحلة الأصلية الأولى، كان الحمار يقفز قفزا بين الحفر كأنه كنغر استرالي رمت به الدنيا إلى غزة، وصل الحمار منهكا نحو الحظيرة، دخل بساقه اليمين ونهق مستأذنا فلم يأذن له أحد بالدخول، دفع بوابة الحظيرة واندفع داخلها فلم يجد إلا جثث الحمير واشلاء حمل صغير وبعض العجول الصغيرة المختنقة، تفقد الحمار كل زوايا الحظيرة ونهق بحزن وفرت الدموع من عينيه وقال لصديقه الغراب: لقد وصلنا بعدما فات الآوان، اذهب واكتشف حظيرة أخرى، لعل أصدقائنا في مكان ما، وأنا سأبقى هنا أردد الصلوات على أرواحهم حتى يخف وجع روحي، طر يا صديقي ولا تذرني هنا وحيدا لفترة طويلة.
حلق الغراب في سماء المدينة تارة ينظر بعين الصقر وتارة يتحسس الاصدقاء كالهدهد، عاد بعد ساعات فوجد الحظيرة قد سقطت وكان الحمار مغشيا عليه بجوار أحد الجدران ولكنه ما زال يتنفس، اقترب منه الغراب ووكزه بأحدى قدميه، وقال له: هل أنت بخير أيها الحمار؟ حرك الحمار جفنيه وقال: أنا بخير ولكن المؤنة قد احترقت وصارت رمادا تحت الانقاض، نعب الغراب وحث الحمار على النهوض.
في طريق العودة بعد رحلتهم الفاشلة قال الحمار للغراب: ماذا سنقول للرفاق عندما نعود؟ فأجاب الغراب سنخبرهم الحقيقة دون شك، فيجب أن يعرف الجميع حقيقة ما يحدث، أنا وأنت شاهدان على المجزرة ويجب أن تنهق لتسمع العالم، هز الحمار رأسه موافقا ومؤيدا مقترح صديقه، وقال له: أو ليس من السخرية أن تنعب وأن أنهق لنسمع العالم! أن نسمع عالما يكره أصواتنا وأشكالنا أكثر من الموت، مهما فعلنا يا صديقي لن يصغي لنا أحد، فأنا وأنت منبوذان ومكروهان، فأنا مهما قدمت حمارا وانت مهما علوت غرابا هيا بنا لنعود إلى حيث لا ننتمي ومضيا قدما نحو الغابة.
كان الحمار طوال الطريق يدندن بأغنية غريبة وبصوت خفيض، أما الغراب فكان يحط على رأس صديقه الحمار كلما تعب من الطيران أو من مشاهد الدمار التي يراها من الأعلى، كان يستمع لأنشودة الحمار التي لم يفهم كلماتها ولكنه أعجب بشجنها ومقامها الموسيقي، فنظر الغراب في وجه الحمار وقال له: هل تعرف يا صديقي الحمار أن صوتك جميل جدا؟ وأتمنى أن يكون عندي مثل صوتك العذب، نهق الحمار ضاحكا وقال: ما رأيك لو تبادلنا الأصوات؟ فأنا اعرف ذئبا حكيما يسكن كهفا بالقرب من غابتنا ويستطيع أن يجري لنا عملية تبادل أصوات، أنا بدوري لن أتردد بمنحك نهيقي على أن تهبني صوت، فالحمير تموت اذا عاشت بلا صوتها.
فكر الغراب في الأمر قليلا وقال: أنا أخاف العمليات الجراحية واكره البنج، إن كانت عملية تبادل الأصوات ستجري على هذا النحو فأنا أسامحك في صوتك، ضحك الحمار وقال: لا تقلق فالذئب لديه من الطرق والأساليب لانجاح الأمر دون دماء ومشارط، ماذا قلت هل نغير طريقنا نحو كهف الذئب الحكيم؟
هز الغراب رأسه موافقا ومضيا نحو الكهف.
كان كهف الذئب الحكيم في الصحراء البعيدة، وصل الصديقان إلى الذئب الذي رحب بالحمار كجائع يرحب بوليمته، وعلى الفور استدرك الحمار رغبات الذئب اللامعة في عينينه وقال له: مرحبا أيها الحكيم لقد جئنا إليك لاجراء عملية، لا لتلتهمني أنا وصديقي فأنا قد سمعت عنك وعرفت أنك نباتي والكل يتحدث عن قدراتك الخارقة ومعرفتك العميقة. ابتسم الذئب في وجه الصديقين واختفت نظرة الجوع من عينينه وحل مكانها وقارا في صوته واعتدالا في وقفته ، وبدأ يستمع لهما حول نيتهما بتبادل الأصوات، ثم قال لهما: هل تودان تبادل الأصوات؟ فقط فأنا سأجري عملية واحدة واستطيع خلالها أن أبدل وأغير أكثر من عضو أو صفة ولكنني لا أقوى على تغيير الاسماء، تبادل الصديقان نظرات التفاهم المشترك وقالا بصوت بواحد: الصوت فقط.
ابتسم الذئب وقال لهما: هيا أمامي لندخل الكهف فكل تمائمي وبخوري وكتبي هناك، انعب أيها الغراب لتودع صوتك وانت كذلك أيها الحمار ولكن انهق بهدوء لئلا يجتمع عليك أقاربي وتمسي في بطونهم فجنون الحكمة لم يمس كل قطيع الذئاب، هيا يا رفاق فالعملية ستستغرق وقتا. ومشى أمامهما بكل تيه وثقة وهما تبعاه بخوف وتردد.
يتبع....