الأنباط -
بقلم عيسى قراقع
الهزيمة تبدأ في العقل والأفكار، وقصف العقول اخطر من هذا القصف الدموي الصهيوني على قطاع غزة، وقد بدأت بعض العقول المقصوفة المهزومة والمرتجفة تطرح سيناريوهات ما بعد دمار غزة في حين ان المعركة لم تنته بعد، عقول صهرها وشوهها هول الكارثة، اخذت تبحث عن مكان وهمي لها للنجاة خارج حدود الملحمة، عقول نظيفة غير مجروحة وسط الشظايا والغبار.
كل الكلمات الآن مشروخة
سوف امضي في المحاولة
سأبحث عن موتي حتى أراه
الى آخر الكلمات
الى آخر الشهقات
حتى يجف الحبر.
عقول الغبار المصفحة بالثقافة الحزينة حسمت المعركة مسبقا، وهي مقتنعة بعد 75 عاما من الاحتلال والقتل والسلب والخراب، ان حل الدولتين قادم فوق الاساطيل البحرية الامريكية المدججة بالأسلحة، هكذا يقول الرئيس الأمريكي بايدن وهو يرسل قرات المارينز وحاملات الطائرات الى غزة المنكوبة، انه حل الدولتين الوهمي بين جثتين، بين حاجزين، بين مستوطنتين، وما بينهما قبور كثيرة، وعقول الغبار لا تتحدث عن حق الشعب الفلسطيني المشروع في المقاومة وحق تقرير المصير.
أطفال غزة يشتعلون في رأسي يبحثون عن حقائبهم المدرسية
كابوس في القراءة والمشاهدة
انفجار في عقلي وفي الذاكرة.
عقول الغبار تنهار كانهيار آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها في غزة، عقول معمارية، ستعيد بناء البيوت وهندسة المكان، وتطفئ الحرائق البشرية، وتبني الحدائق فوق الجثث المطمورة، أموال البنك الدولي جاهزة، لوحات جميلة فوق الأجساد الممزقة، راية سلام نقية من الآلام والدم، سلام النسيان والمغفرة والرحمة.
لغة باردة
ناعمة شديدة الاتقان
يا رب
اني اموت صمتا
خذني الى غزة
لأموت صخبا
عقول الغبار الجالسة في معهد او مكتب او على الشاشة، ترسم خارطة سياسية جديدة للحياة الزاهرة القادمة، سيبدأ نص آخر على صفحة بيضاء بيضاء، الصواريخ والقنابل محت الناس ونظفتهم من الوجود، يقولون: سنحلل الواقع كما يحلل جسد غزة في طوفان دمائه الغزيرة، عقول الغبار ليس في قاموسها الايمان واليقين ان الشعوب المقهورة قادرة على الانتصار، وانه ليس هناك حرية الا في موقف، وليس هناك موقف الا من خلال الحرية، وان تعلم الحياة وتعلم الموت هو شرط الحياة الكريمة.
ما بين الحياة والموت
يكون الخلق والولادة
من قال اننا خلقنا
للاحتضار والابادة
ولدنا واقفين
ننتمي لقيامة الشجر
عقول الغبار لا زالت تعتقد ان قرارات الأمم المتحدة الكثيرة على أهميتها ستحرر فلسطين، وهي بديل عن الصمود والمقاومة، لم اسمع يوما ان شعبا حررته الأمم المتحدة من الاستعمارـ لهذا استقالت المفوض السامي لحقوق الانسان في الأمم المتحدة، وهي تقول وتعترف ان القانون الدولي تم اخضاعه للمصالح السياسية الاستعمارية، وان علينا ان نعترف ان ما يقوم به الاحتلال الصهيوني هو تجريد السكان الأصليين من ممتلكاتهم ووجودهم وهويتهم الوطنية، وكما قال مندوب روسيا في الأمم المتحدة: إسرائيل دولة احتلال ولا حق لها بالدفاع عن نفسها.
كيف ينام مخيم جنين في شظايا الموت؟
وجباليا المهروسة تحت النيران الكثيفة
ولا زلت اسكب روحي على رصيف يحترق في مخيم الدهيشة.
عقول الغبار لم تتعلم ان السلام الحقيقي لا يأتي الا عند مفترق الموت، انا اموت وعدوي يموت، انا في السجن وعدوي في السجن، الالام المشتركة لطرفي الصراع تصنع السلام الذي لا يقرره فقط الطغاة والاقوياء، السلام لا يأتي الا بعد الندية والخوف.
أربعون عاما يا ولدي في السجن
هل ما زال الحب في البيت؟
الام والجدة والقهوة ذات القهوة
الملامح والصوت.
أي قوة في التاريخ؟ أي بلاغة تستطيع ان تشفي أجيال قصفت اعمارها وهدرت حياتها في اللهيب والرماد، أي عبقري هذا يستطيع ان يبني غزة الجديدة ويرصف شوارعها، وكل ما فوقها وما تحتها أرواح وكوابيس واجساد تصرخ تحت الأنقاض.
أيها الاكاديميون
تعبت من القراءة بين الاحلام المؤجلة
اشعر بالعطش والجفاف
كلما انهمرت الكلمات
عقول من غبار تتحدث عن محور المقاومة ووحدة الساحات والعواطف القومية والدينية، ولا أرى غير لحمنا ودمنا يسقي الرمل والاسمنت في غزة، لا بأس هذا قدرنا التاريخي، نسقط اول مرة وعاشر مرة لكننا نقف في المرة الأخيرة ولا نسقط ابدا.
يسألونك عن غد لا اعرفه
في انتظار جرافة تخرج جثتي من تحت التراب
فنان يلملم اشلائي قطعة قطعة
ينتشل اسمي من تحت طبقات فوق طبقات من الغياب.
عقول من غبار لا تدرك ان معركتنا هي تحرير الاحتلال من عقلية الاحتلال، وتفكيك الاستعمار وفاشيته وعنصريته المتمادية، فمهمتنا كبيرة وشاقة ومزدوجة، موتنا يحررنا ويحررهم على حد سواء فكل ما نحتاجه الان سجادة صلاة في القدس، واذان في المساجد يعانق أجراس الكنائس: حي على الثورة حتى مطلع الفجر فإما الحرية او الممات.
عقول الغبار لم تختبر ما قاله الكاتب عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط: الموت سيطال كل انسان، ولا يمكن لأحد ان ينجو منه، لكن اجمل موت اذا كان هناك جمال من أي نوع، ان يجعل اعداءه تعساء، ان لا يحسوا بالفرح عندما يموت، ليكن موتنا ليس عبئا علينا فحسب، وانما عبئا وعلى الذين يعتقدون انهم سينجون بعد موتنا.
لا زالت الطائرات الحربية فوق رأسي غارة ثم غارة
عدت الى حرب الانفاق في فيتنام
حفرت جسدي
حضنت اولادي وقلت:
اذا اردت الحياة فلتستعد للموت.