الأنباط - د. منذر الحوارات- عندما انهار االتحاد السوفيتي كان ثاني قوة عسكرية في العالم وأكبر قوة نووية في التاريخ، ترسانته تلك كانت تؤهله لتدمير العالم عشرات المرات، وبرغم كل ذلك أفاق العالم على هذه الدولة العابرة للقارات تتفكك كالشظايا وتتحول إلى خمس عشرة دولة بين عشية وضحاها، هذه الدولة العظيمة لم تنهر بسبب حرب كبرى رغم وجود العديد من الحروب الباردة بينها وبين الواليات المتحدة، بل بسبب تفكك األطر القيمية الداعمة لوجودها، لقد انهارت المبررات لالستمرار، فقد النموذج الذي بدأ مدافعًا عن العمال والفالحين والطبقات المسحوقة والُمستغلة بريقه بعد أن أصبحت هذه المجموعات تقبع في مستوى حياة متدن وبائس ال يليق بالشعارات المطروحة، ففقد بالتالي القوة الدافعة الستمرار تلك الدولة في البقاء كقوة تدافع عن نموذج محدد.
واآلن بعد انتهاء الحرب الباردة بثالثة عقود تقريب ًا هيمن خاللها النموذج الغربي وحيدًا على المجال العالمي بدون أي منافس، وهو الذي يتبنى على األقل نظري ًا عناصر رئيسة تشمل سيادة القانون، والتعددية السياسية، والتسامح الثقافي، وحصول الجميع على فرص متساوية في النجاح بناًء على موهبتهم، وهي كما ُتعرف بالرأسمالية الليبرالية والتي أنهى بها فرانسيس فوكوياما ذات يوم التاريخ قبل أن يعود عن ذلك، هذا النموذج جّر الويالت على شعوب كثيرة حينما ُطبق بشكل اعتباطي لم يأخذ بعين االعتبار العناصر الداخلية المعقدة فيها، فأدى إلى تفككها ودخولها في احتراب أهلي لم تنتِه منه أو من تداعياته حتى اآلن، والعراق هو النموذج األكثر كارثية حينما ُفرض بالقوة العسكرية، وتسبب في نتائج معقدة انعكست سلب ًا على بريقه في المنطقة العربية على األقل حيث الدكتاتورية أمر مقدس والديمقراطية مكروهة، واالستعصاء على التحول الديمقراطي هو العالمة األبرز، طبعًا كانت النتيجة اعتبار النموذج الغربي األميركي هو سبب كل الويالت التي تعيشها المنطقة، بالتالي تبدو المنطقة متلهفة لنموذج آخر بديل، بالذات أنها ال تزال عاجزة عن إنتاج نموذجها الحضاري الخاص بها. وفي الوقت الذي تحتدم حرب الحاضر على تخوم أوروبا نجد أن حرب المستقبل تشتعل في مكان آخر، هناك في أقصى الشرق في الصين، حيث ينهض هذا المارد بعد قرن من إذالل الغرب له بنفس أدوات الحضارة الغربية، وبعيدًا عن أعداد األسلحة والقطع الحربية من صواريخ وبوارج، وبعيدًا عن السيطرة الجيوسياسية والسيطرة على المضائق، فكل تلك ما تزال تميل لمصلحة الغرب
والواليات المتحدة تحديدًا، فهناك مسافة مهمة حتى تتمكن الصين من مجاراة الغرب، هذا إن استطاعت ذلك، لكن في قلب تلك المعمعة المحتدمة يبرز صراع آخر ربما ال يتم االنتباه إليه كثيرًا، وهو الصراع بين نموذجين، نموذج الغرب المعروف، والنموذج الجديد قيد التشكل بطابع شرقي وبمكونات شرقية لكن الملفت أن القوة الدافعة لهذا النموذج هي الجزء المهم من النموذج الغربي وهي الرأسمالية، وهي هنا ليست ليبرالية بل رأسمالية سياسية، حيث تتمتع الحكومة وليس المجتمع المدني بالسلطة النهائية التخاذ القرار بشأن االقتصاد والمجتمع، وهذا النموذج األخير يستمد شرعيته من نجاحه، فهو يقدم حتى اآلن نتائج مهمة على مستوى العوائد، وتكدس الثروة في أيدي المستثمرين، ويحقق مستوى عاليا من الرفاه واالستقرار االجتماعي. ومن المبكر القول إن هذا النموذج يمكن أن ينتصر بسهولة على النموذج الغربي، ألن استمرار نجاحه مرهون بنجاح القوة الدافعة له وهو االستقرار االقتصادي والرفاه االجتماعي، ففي حال أي إخفاق فإنه ينعكس على الجهات المسيطرة على الحكم، بينما في الغرب سيقع اللوم على الصندوق الذي أفرز هذه المجموعة السياسية وبالتالي سيتم االحتكام إلى الصندوق من جديد، بينما في النموذج الصيني لن يقتصر األمر على مجموعة ضيقة من السياسيين بل يتعداها إلى جوهر الدولة مما قد يؤدي إلى اضطرابات على لنمط تفكيرها. بالنسبة لمنطقتنا، حيث يعتبر مالئمًا مستويات مختلفة قد تهدد النظام برمته، ومع ذلك ربما يبدو هذا النموذج مغري ًا يبدو من المبكر الحديث عن نموذج صيني متكامل في مواجهة النموذج الغربي الناجز، والذي يتعرض للنقد وإعادة التقويم بين الحين واآلخر، لكن المؤشرات تذهب باتجاه أن الصين ُتعد نفسها إلنتاج نموذجها الخاص في مواجهة الغرب، وهي تدعمه بمشاريع اقتصادية عمالقة وعسكرية كبيرة، لكن ال يبدو أن من المنطق الحكم بشكل مبكر على؛ أي النموذجين سيكون األقدر على االنتصار؟ فدون ذلك هيمنة اللغة اإلنجليزية، واألطعمة، ونمط الحياة عدا عن السينما، وثقافة متشعبة تمكنت من أن تسكن عقول النخب في كل مكان بشكل يعجز الغرب عن مجاراته، وهذا بالتالي سيؤدي في النهاية إلى سيطرة السياسية، لكن الصين تتقدم اقتصادي ًا اقتصادية، وبدون شك هذه السيطرة ستفرض طابعها ونموذجها، ويبقى المستقبل هو الحكم في آخر المطاف.