د. أيّوب أبو ديّة
عالم المحاكم والقضاء مختلف تماماً عن العوالم الأخرى التي نراها في الشارع أو في الحقل أو المكتب أو المصنع، حيث هناك وقار من نوع خاص يُصبغ على القاضي أو المدعي العام يجعل المرء أكثر حذراً ورهبة تجاههم. نعم، للمعلم رهبة خاصة، كذلك لولي الأمر، ولكن القاضي أو المدعي العام عنده السلطة ليحد من حريتك التي ربما تكون الأثمن من أي شيء آخر عند معظم الناس، فهو يستطيع أن يرسلك إلى السجن متى شاء، بينما المعلم أو ولي الأمر لا يفعل ذلك مهما غضب منك أو استاء من تصرفك.
وأعتقد أن هذا الوقار مستمد في جانب منه من نزاهة القضاء الأردني، فلو كانت المؤسسة القضائية فاسدة لانخفضت سوية هذا الاحترام وذلك الإجلال الذي يتمتع به أفراد السلك القضائي. وللمراقب المحايد مثلي، وخلال انتظار دوري للشهادة أمام المدعي العام، نظرة موضوعية ربما تكون مفيدة في تطوير معاملة المواطنين وتحسينها؛ فأول ما شدني وأثارني هو معرفتي أن المدعي العام عنده السلطة للتوقيف قبل أن يصدر قرار من المحكمة؛ وهذا يمكن فهمه في قضايا جنائية للسيطرة على عدوانية الشخص وردعها، أما في مسائل إشكالية تتعلق بكتابة مقالة أو إعادة نشر تعليق أو ما شابه ذلك، أليس من الأفضل أن يتم التريث حتى تكتمل الصورة، لأن التوقيف هو بحد ذاته عقوبة سابقة على حكم المحكمة.
وما شدني وأثارني أيضاً أثناء مراقبة الناس وهي تنتظر لساعات طويلة، وبخاصة كبار السن الذين لا يبدو أنهم يتمتعون بميزة خاصة، على الأقل هذه في تجربتي المحدودة التي عاينتها وفي ذهني فيديو لقاض أوروبي نزل من على منصته للاستماع إلى كهل، وهو جالس، كيلا يثقل عليه بالوقوف.
أما الأمر الآخر الذي لفتني فهو اختلاط القضايا عند القاضي الواحد ، فراقبت شكاوي متباينة، من سرقة جهاز خلوي إلى حوادث وشجارات وقضايا ذم وقدح وتهديد وما إلى ذلك، وكنت أظن أن كل مدعي عام متخصص في أمر محدد كالمهندس أو الطبيب ، وذلك كي يحيط بكافة جوانب الموضوع وتتعمق خبرته بدلاً من أن تنداح اتساعاً على نحو أفقي.
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن معاملة المدعي العام كانت معقولة ، على الرغم من مشقة الوصول إليه ورغم الانتظار الطويل الذي لا يصيب الإنسان بالغضب فحسب بل بالإحباط من الدولة بكليتها التي تعامله بهذه الطريقة ، وبخاصة لدى أولئك الذين تعاملوا مع القضاء في دول متقدمة على سبيل المثال. ومهما يكن من أمر فقد كان وداع المدعي العام الأول في قصر العدل حميماً فأنساني رحلة عذابي خلال الاستدعاء والانتظار والمثول أمامه.
أما لقائي الثاني مع مدعي عام آخر في سياق القضية ذاتها ، وكانت امرأة محترمة في محكمة غرب عمّان، وبعد انتظار طويل أيضاً كانت الواقعة أقل معاناة من الأول، إلا أن استقبالها لي بالترحاب جعلني أشعر بالغبطة والراحة. أما لقائي الثالث مع مدعي عام آخر فكان في محكمة غرب عمّان أيضاً وأثلج صدري اعتذاره للتأخير الذي حدث قبل الاستماع إلى أقوالي. هؤلاء القضاة يعكسون صورة طيبة عن القضاء الأردني ويسهمون في توطيد علاقة المواطن الحميمة بوطنه، فإذا تداعت هذه الروابط لا قدر الله فالنتائج لا يمكن تقديرها بسهولة وبخاصة في نفوس الأجيال الشابة على المدى البعيد.
ختاماً، ربما يتفاجأ القارئ بأسباب الحديث عن هذه التجربة عند ثلاثة قضاة يمثلون مرتبة مدعي عام وخلال فترة وجيزة، وبخاصة لأنني لم يسبق لي في حياتي أن مثلت أمام مدعي عام أو رفعت شكوى على أحد عند مدعي عام، ولكن شاءَت الأقدار أن تجرني كتاباتي في مواجهة المشروع النووي إلى المدعي العام ولم أجد مناصاً من الدفاع عن نفسي بالشكوى على من اشتكى علي لكشف الحقيقة وتحقيقاً للعدالة ورد الاعتبار لنفسي وغيري من اللذين اضطهدوا فما قيمة الحياة كلها متى حل خريف العمر ولم يذد الإنسان عن كبريائه وكرامته وسمعته؟