أحسنت الحكومة إذ أحالت عدداً من المشتبه بهم بارتكاب جرائم ذمٍّ وقدحٍ بحقّ ضحايا الهجوم الإرهابيّ في اسطنبول ليلة بداية العام الجديد إلى القضاء. فالتهمة المفترض محاكمة هؤلاء عليها تمثّل خرقاً للقانون تجب المحاسبة عليه، وخطراً على المجتمع وثقافته وسلمه الأهلي تجب إزالته عبر إجراءاتٍ فاعلة.
لكنّ فاعليّة إجراءات حماية المجتمع من هذا الخطر تتطلّب عملاً برامجيّاً شاملاً يستهدف تجفيف منابع الجهل التي تغذّي نزعات الحقد والكراهية في المجتمع، ويعاقب كلّ من يروّج للفكر الإقصائيّ الإلغائيّ الذي يخرق حقّ الآخر المختلف في الحياة الحرة الكريمة.
وشرط النجاح في هذا الجهد الضرورة هو وضوحٌ لا يقبل المساومة في رفض الفكر الإلغائيّ وعدم السماح بوجود أيّ مساحاتٍ ضبابيّةٍ يتحصّن في غموضها دعاة الإقصاء الذين يتعاطفون مع الإرهاب أو يبرّرونه أو يروّجون لضلاله.
فالذين يسيئون لمواطنين أردنيّين وغير أردنيّين ذهبوا ضحايا عمليّاتٍ إرهابيّةٍ ويبرّرون الإرهاب يتخلّون عن وطنيّتهم وعن إنسانيّتهم، ويتماهون مع المجرمين الذين غرقوا في الضلالة حدّ استحالتهم مسخاً لا ينتمي لفكرٍ أو حضارةٍ أو دين. وهؤلاء يجب أن يعاقبوا قانونيّاً واجتماعيّاً.
يكون العقاب القانونيّ بتطبيق العقوبات التي تفرضها التشريعات على من يمارس جرائم الذمّ والقدح والترويج للإرهاب وتهديد السلم المجتمعيّ. وصحيحٌ أنّ القانون لن يستطيع أن يطال كلّ من يستغلّ وسائل التواصل الاجتماعي لبثّ الحقد والجهل. لكنّ ذلك لا يبرر عدم اتّخاذ الإجراءات القانونيّة بحقّ المشتبه بارتكابهم مثل هذه الجرائم حيث يمكن. فعدم القدرة على إمساك جميع من يشتبه بارتكابهم جرائم السرقة وبالتالي محاكمتهم لا يبرّر عدم محاكمة من يُلقى القبض عليه منهم.
أمّا العقاب الاجتماعيّ فيتأتّى عبر عدم مهادنة من يقترب، قصداً أو جهلاً، من تبرير جرائم الإرهابيّين أو الإساءة لضحاياهم تحت أيّ ذريعة. ثمّة حاجةٌ لمواجهةٍ شاملةٍ مع الذين يفترضون لأنفسهم الحقّ في إلغاء الآخر وإقصائه وانتهاك حقوقه. هؤلاء خطرٌ يهدّد تعدّديّة المجتمع وتنوّعه، وبالتالي جماله وصلابته واستنارته وتماسكه.
منذ البدء تأسّست المملكة الأردنيّة الهاشميّة وطناً للحياة والاستنارة، منسجماً مع إرثه العربيّ الإسلاميّ الوسطيّ المعتدل في احتفائه بالتعدّديّة واحترامه للآخر وتبنّيه لقيم السلام. حماية هذا الإرث واجبٌ تجاه أجيالٍ من الأردنيّين ضحوا من أجل أن يكون الأردن مملكةً للأمن والأمان والنور، وحقٌّ لأجيالٍ مقبلةٍ من الأردنيّين يستحقّون أن يعيشوا في ظلّ هذه الرحابة والميزة الأردنيّة.
استفاد دعاة الفكر الإقصائيّ الإرهابيّ ومروّجو الجهل من تراخٍ في مواجهتهم حال دون محاصرة وبائهم أو معاقبة جرائمهم. تلك حالٌ يجب أن تنتهي. ويجب أن لا تكون ملاحقة أصوات الموت مرتبطةً بحدثٍ أو أن تأتي ردّة فعلٍ تفرضها أوجاع جريمةٍ معيّنةٍ فقط. يجب أن يكون التصدّي لتلك الأصوات منهجيّةً دائمة.
تحدّث الصديق فهد الخيطان أمس عن الحاجة لقوانين تؤدّي إلى تحميل الشركات المالكة لمنصّات التواصل الاجتماعي مسؤوليّةً في منع الترويج لثقافات الموت والحقد. وجود مثل هذه القوانين أصبح ضرورة. ولن يكون من الصعب الوصول إلى صيغٍ لتشريعاتٍ تضمن، كما هي الحال في عديد دولٍ ديمقراطية، حماية المجتمع من أفرادٍ ومجموعاتٍ يروّجون للإرهاب ومّمن يسيئون لضحايا الإرهاب وذويهم.
وسيكون في مصلحة المملكة أن تتعاون السلطتان التنفيذيّة والتشريعيّة على سنّ تشريعاتٍ تضمن حرّية الرأي والتعبير، التي هي حقٌّ دستوريٌّ وأخلاقيٌّ، وتحمي المجتمع من خطر الفكر الإلغائيّ الإقصائيّ وأدواته في آن.
فالقبح الذي حملته وسائل التواصل الاجتماعيّ بعد جريمة اسطنبول وقبلها يجعل من التلكّؤ في التصدّي لوباء تبرير الإرهاب خرقاً قانونيّاً وخطيئةً سياسيّةً وأخلاقيّةً وأمنيّة