الأنباط - غزة شهادة التاريخ واستئناف الذاكرة..
عقيل هاشم
المقال فن من فنون الابداع ,ويمثل المقال النقدي جانبا مهما في عالم الادب والإعلام المعاصر, ويبقى على الدوام السبيل الفاعل في رفد الادب بشتى انواعه و سبب في تطوره النوعي في خضم الكم الهائل منه ناهيك عن التقريب بين القارئ و النص ويدعو الى فهم الانتاج الفكري للشعوب ,لذا يعتبر المقال النقدي عنصرا أساسيا في رفد الانتاج الفكري و الادبي بصورة خاصة.
و تحرير المقال صنعة متقنة مادتها اللغة لذلك كانت العناية بالمفردة الدقيقة المنتقاة وبالعبارة المجسدة للمعنى وبالبلاغة الواضحة التي تجعل الجملة تؤدي مهمتها في إيصال المعلومة إلى القاريء بوضوح دعت كتابها الى ضرورة التنوع والتجدد الامر الذي دفعت كتاب المقال إلى التفتيش عن أفضل الوسائل والأساليب في صياغته و بشكل يواكب التحول في الذوق العام للقراء , ووضعه وجها لوجه أمام مسيرة التطور والتجدد والتنوع ,والمقال له طرائق مستحدثة تناسب واهتمام القاريء المعاصر .
الكتاب الذي امامنا جمع من المقالات تم تحريرها ونشرها من قبل الاديبة الأردنية بديعة النعيمي .ولا ننكر ان الاديبة النعيمي في اعمالها الادبية والنقدية جاءت متفرّدة في أسلوبها الادبي والمعرفي، فهذه الخاصية انتقلت الى كتابة تلك المقالات لتخلق قيمة تعبيرية لمقالاتها وعلى هذا ألاساس، ففي كل مقال نجده قائم على التكثيف والترميز وفلسفة اللغة، بما تحمل من شيفرات الحفْر والهدم وتفكيك البنى لتكتمل عملية الترميم..
إنّنا نرى هذا التجلّي المتكاثف يتلاقح مابين اللغة الادبية والصحفية، لكي يخرج المقال متكاملاً بواسطة التلقّي، وقد لاحظنا أنَّ هناك مابثير دهشة للقارئ الباحث عن متعة مخبّأة، ومن خلال عملية التنقيب الواسعة بين التراكيب اللغوية في الكتاب والذي تم عنونته الكاتبة بديعة النعيمي (الحرب على غزة )والصادر عن دار الفينيق للنشر والتوزيع-عمان , المملكة الاردنية الهاشمية 2024-
الحرب على غزة -والذي يرسم هُوية تلك المقالات ، حيث يجمع الكتاب مشاعر وحنين والالم اليومي والفقد مع الكلمات بكلّ طاقاتها وحمولاتها الفكرية ويشحنها المقال بانفاس كاتبتها النعيمي لاقتناص المعاني ومغزاها الدلالي، فنكتشف كنزاً معرفياً يحفز في داخلنا شعوراً جمالياً نلمس دهشته حين القراءة.
وبهذا الأسلوب تطوّع الكاتبة عموماً اللغة لتوسّع من مدارها ليغدو التجانس الفكري بين الذاكرة والعقل رؤيةً، ومن صميم هذا الواقع الغزاوي ينبع عالم جمالي حميم ينمّ عن وعي عميق تفرضه الكاتبة رغم قساوة الموضوع ووجعه الانساني, بوصفه ظاهرة ملتهبة ، وهكذا يجعلنا نترقّب مايجري في خاتمة المقال ثم الاستمرار في قراءة الاخر ما يدفعنا حماسنا للولوج في أعماقه والبحث المستمر عن أسئلة الكاتبة.
هذا مايدل على امكانية الكاتبة في اكتساب المعرفة اللغوية، كان لا بدَّ من هذه المعرفة وهذا مذهبها النقدي ولإيمانها العميق بممكنات اللغة، وعلاقتها الجدلية بالنص، إنَّ ما يرفع كفّة الكاتب امتلاكه أدواته المعرفية في إطار قائم على الجدل في أنساق تلك النصوص ان كانت مقال او اي جنس ادبي اخر ، لاكتشاف كثافته الحسيّة، ويفرض أسلوباً سحرياً يكشف عن تصوّر دلالي لوجوده، وهذا يعني أنَّ الصور الدلالية تتنبّأ بظهور حدث مضمر أو مستتر في تراكيب خفية،
بل يفتح باب التأويل لأسئلتها الفلسفية للتوسّع في المعاني والسمات الرمزية لكينوناتها، وهي تعابير وتصوّرات كوّنتها قدراتها الذهنية، بواسطة الذاكرة التي تختزل التفاصيل، هكذا يمكن إطلاق الذاكرة بعين نسر لا يخطئ هدفاً .
المقالات المثيرة للاهتمام , جاءت من التاريخ والذاكرة والسير التي واجهتها الكاتبة في توثيق احداثا ساخنة كان لها عظيم الاثر في نفسها , فالكتاب يعطي صورا متعددة لامرأة تشعر بقيمة واهمية الجرح الذي لايندمل لما يحصل على ارض فلسطين المؤلمة، فنجاحها المهني والادبي في توثيق تلك الماسي -ادبيا –شعرا /سردا –مقالات كلها تدل على أنها كانت قادرة على التعامل مع الآخر بنجاح، جهد جبار بذلته الكاتبة طوال فترة عملها في إخراج هذا الكتاب كان النقطة الأساسية والشعور الدائم بانتمائها الحقيقي لوطنها فلسطين وان ابتعدت جغرافيا عنه.
وهنا ندخل الى متون تلك المقالات , فقد أعدت له الكاتبة عدتها من توثيق تاريخي ووصف أمكنة، وصاغته في نظام من التعبير الكنائي، أو الرمزي مداره (غزة)..
امتداداً لحرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها الكيان الصهيوني المحتل على أبناء شعبنا، فقد أعادت القضية إلى صدارة المشهد وأججت الغضب في نفوس الشعوب العربية، وحفرت عميقاً معه الشعور بالحزن والالم، فإن هذه المشاعر لا بد أن تنفجر في لحظةٍ ما جارفةً أمامها كل الحواجز.
لم يعد هناك ما هو قادرٌ على ردع أو إخافة الفلسطينيين فالفقدان والموت فقدا هذه القدرة، لذا فإن نضالهم وصمودهم سيكونان «قلعة صمود» والمُعلم لسائر الشعوب، والعربية خاصةً، التي هزمتها وأهانتها وباعتها هذه الأنظمة.
وختاما , وكل هذا مما لا يتسع المجال لتفصيل القول فيه، يجعل الكتاب وبما فيه من الكلمات أو التعبيرات إنما تتمثلها المخيلة وتنزل على الورق خالصة لوجه الله وحتى يضفي عليها من ذاكرة الكاتبة صورا يومية مرادها ان تصل الى قلب القارئ وضميره تعويذة يذكى فيه الحدس مثلما يذكى فيه الإدراك بالمحنة .