الأنباط -
آلية سعر الصرف الثابت تقوم على تثبيت سعر صرف العملة المحلية إلى عملة دولية، هي الدولار في الوضع العالمي الحالي، الذي بات عملة التسويات المالية العالمية بعد أن ألغت الولايات المتحدة قاعدة الذهب في بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم، ووضعت العالم أجمع أمام خيار واحد، هو اعتبار عملتها الميزان الرئيس للعملات حول العالم، بيد أنَّ تلك الآلية لا تمنع الدول من أن تعيد النظر في السعر المُثبّت للعملة كلما ظهرت بعض الدلائل، خاصة حينما تتعرض عملة الدولار لضغوط دولية، تجارية غالباً، أو سياسية أحياناً، ما يجعل سعر الصرف المُثبّت عبئاً على بعض الاقتصادات، سواءً في مقابل مدونيتها بالعملات الأخرى، عند انخفاض الدولار، أو في مواجهة الضغوط التضخمية فيما يتعلَّق بمستوى أسعار لمواد أولية أو لسلع جاهزة مستوردة من الدول الأخرى.
اليوم تحاول الولايات المتحدة أن تدافع عن الدولار، أمام الضغوط الكبيرة عليه، والتي تولَّدت بفعل سياساتها غير الحصيفة أولاً في التعامل مع جائحة كورونا عبر إغراق السوق الأمريكي وحقنه بأحجام نقدية ضخمة، كتحويلات نقدية مباشرة تمَّ طباعتها بدون أيِّ غطاء إنتاجي أو معدني، ووصلت إلى ما يزيد على 3 تريليونات من الدولارات، وحصل عليها ما يقرب من 45% من الشعب الأمريكي، بغض النظر عن مستوى دخله، أو حتى احتياجه لتلك الأموال.
وثانياً بسبب السياسات المتبعة اليوم في التعامل مع الأزمة والحرب الروسية الأوكرانية، والتي تمخضت عن الحاجة إلى سياسات لمقاومة الضغوط الإضافية على الدولار الأمريكي من جهة، وعلى تدهور قيم اليورو والجنيه الإسترليني بنسب تجاوزت في بعض الحالات نحو 40% من جهة أخرى. والمحصلة تلاشي القوة الشرائية؛ أي قوة تلك العملات بشكل ملموس، وخاصة عند القياس بالنسبة لأصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة والمتدنية.
الولايات المتحدة كالعادة تلجأ إلى أساسيات مبادئ الاقتصاد في التعامل مع الظواهر الاقتصادية، وطالما أنَّ موضوع الحفاظ على القوة الشرائية، وسعر الصرف، هو من صلاحيات البنك المركزي، أو البنك الفيدرالي كما يسمّونه، فإنَّ أدبيات السياسة النقدية تُحتِّم في الظرف الاقتصادي العالمي القائم ضرورة اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة، بما يُسهم، من جهة، في "تجميع" أو "لملمة" السيولة الزائدة في الأسواق المحلية والعالمية، وتبريد سخونة الضغوط التضخمية التي يواجهها الدولار، وبالتالي القوة الشرائية له، من جهة أخرى.
هذه السياسة في الأدبيات الاقتصادية ستنتهي في الغالب إلى تحقيق الهدف، بعودة الاستقرار إلى سعر الصرف، مع مرور الوقت، إلا أنها تخلق في العادة سخونة اقتصادية مختلفة، وعلى شكل فقاعات مالية ونقدية؛ فقاعات أولها في سوق الأسهم، وثانيها في أسواق السندات، وآخرها في سوق العقارات، وقد ينتقل الأمر إلى سوق العملات المُشفرة. ما سيشهده العالم قريباً، في حال لم ندخل في حرب عالمية حقيقية، عودة إلى فقاعات مماثلة لتلك التي شهدناها قبل الأزمة المالية العالمية 2008، خاصة بعد تكدُّس مبالغ كبيرة من النقد في المصارف، إمّا جراء الادخار الزائد، طمعاً في أسعار الفائدة المرتفعة، أو جراء عودة الأموال إلى خزائن المتاجرين بالسلع الأساسية والنفط والتطوير العقاري.
المعضلة الحقيقية تتمثل في أنَّ الدول التي تتبع سياسة تثيبت سعر الصرف إلى الدولار، تلجأ إلى التماهي التام مع السياسة التي يتبعها الفيدرالي الأمريكي، ليس فقط في اتجاه التغيير رفعاً أو تخفيضاً لأسعار الفائدة، ولكن أيضاً بحجم ذلك التغيير، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يتطلَّب من تلك الاقتصادات التماهي التام مع حجم واتجاه تغيرات سعر الفائدة على الدولار الأمريكي؟، والإجابة المباشرة تقول: نعم حول الاتجاه، ولكن ليس بالضرورة بشأن قوة أو حجم التوجُّه، فلا شكَّ أنَّ تلك الاقتصادات تتخوَّف عادة من ظهور ما يُسمّى "الدولرة" والتي تعني التحوُّل من العملة المحلية إلى الدولار في المدخرات؛ أي تحويل الأرصدة بالعملة المحلية، إلى أرصدة بالدولار، طمعاً بالعائد وهروباً من أيِّ مخاطر مستقبلية حول العملة المحلية.
ولمعالجة ذلك فإنَّ المطلوب بالضرورة رفع أسعار الفائدة على العملة المحلية؟ ولكن السؤال المنطقي هو: لماذا تصرُّ العديد من الدول على تغيرات مساوية لحجم التغيرات (زيادة أو نقصاً) في أسعار الفائدة على الدولار؟، والحقيقة أنَّ ذلك ليس بالمتطلب العادل لكافة دول العالم التي تُثبّت عملتها إلى الدولار. ذلك أنَّ الحل السهل اليسير للسياسة النقدية هو في التغيير الموازي بنفس القوة والاتجاه، بيد أنَّ الحل العلمي المنطقي يتطلَّب دراسة الأثر النسبي لذلك على الاقتصاد المحلي، من حيث كلف الاقتراض، وكلف القروض القائمة، وحجم الأثر على التجارة الخارجية، والتسويات المالية، والمقاربة الأفضل تكمن في الإبقاء على هامش مناسب بين أسعار الفائدة على العملة المحلية وأسعار الفائدة على الدولار، ما يعني ضرورة رفع أسعار الفائدة كلما قام البنك الفيدرالي الأمريكي بذلك، مع تحديد نسبة الرفع بالوزن النسبي لكتلة الدولار في الودائع القائمة، والمدفوعات الخارجية؛ أي التسويات المالية الخارجية، بما في ذلك مدفوعات التجارة الخارجية وخدمة الدين الخارجي، وكذلك ربط الزيادة بمستوى التضخم المحلي، والمستورد.
وفي النهاية، وضمن تلك المعطيات، تتحدَّد النسبة الأكثر ملاءمة للتغيير في سعر الفائدة المحلية في الاقتصاد المعني. وفي إطار هذه المقاربة، يتم تحديد معامل رقمي للوزن النسبي للتغيير، فقد لا يتجاوز ذلك الوزن النسبي في بعض الحالات الربع، أي أن كل زيادة بنسبة واحد في المئة على أسعار الفائدة على الدولار تتطلب من الدولة المعنية زيادة لا تتجاوز 25 نقطة مئوية، وهكذا الأمر، بيد أنه في الحالة الأوروبية اليوم فإنَّ مجموعة الدول الأوروبية وضمن ظروفها في المعطيات المشار إليها، يتطلَّب الوضع منها رفع أسعار الفائدة بنفس الاتجاه والوزن النسبي، على الأقل، في حين أنَّ الكثير من دول العالم الأخرى قد لا يتطلب منها الوضع الداخلي الرفع بأكثر من نصف قوة الرفع التي استخدمها الفيدرالي الأمريكي.
حوصلة ما سبق، والشاهد فيه يتمثَّل في قضيتين؛ الأولى: أن اتباع آلية سعر الصرف الثابت مفيدة لاستقرار العملات المحلية، وللحفاظ على القوة الشرائية والاستقرار النقدي، ولكنها لا تتطلَّب الإبقاء على سعر الصرف نفسه دون تغيير على مدى عقود، فقد تتم عملية التثبيت على سعر مختلف بين فترة وأخرى ضمن المدى المتوسط والبعيد، وذلك تخفيفاً للعبء على العملة المحلية، وكلما لزم الأمر.
والقضية الثانية: أنَّ التماهي مع سياسة البنك الفيدرالي الأمريكي، للعملات المُثبّتة إلى الدولار، في تغيير سعر الفائدة مطلوب من حيث الاتجاه، رفعاً أو تخفيضاً، ولكنه غير ضروري من حيث القوة أو الحجم، وما يحدد الوزن النسبي الفعّال أو المناسب للتغيُّر هي المعطيات المشار إليها سابقاً وبما يحقِّق المصلحة الاقتصادية الوطنية الكلية أو الجزئية.
الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com