chosen_articles

سلاسل التوريد تحت الاختبار: من جائحة كورونا إلى الحروب

{clean_title}
Alanbatnews -


د. احمد علي 
أستاذ إدارة سلاسل التوريد

لم تكن جائحة كورونا أزمة صحية فقط، بل شكّلت صدمة حقيقية للنظام الاقتصادي العالمي، وكشفت بوضوح هشاشة سلاسل التوريد التي بُني عليها الاقتصاد الحديث. ومع أن العالم اعتقد أن هذه الصدمة كانت استثنائية، جاءت الحروب والصراعات الجيوسياسية لتؤكد أن الخلل أعمق، وأن سلاسل التوريد ما زالت تخضع لاختبار قاسٍ لم ينتهِ بعد.

خلال الجائحة، تعطلت المصانع، أُغلقت الموانئ، وواجهت الدول نقصًا حادًا في الغذاء والدواء والمستلزمات الأساسية. لم يكن السبب نقص الموارد، بل الاعتماد المفرط على سلاسل توريد طويلة، معقدة، ومتركزة في مناطق جغرافية محددة. وعندما توقفت حلقة واحدة، انهارت السلسلة بأكملها.

اليوم، ومع تصاعد الحروب الإقليمية والدولية، باتت سلاسل التوريد أكثر عرضة للاضطراب. فإغلاق الممرات البحرية، وتعطّل طرق الشحن، وارتفاع تكاليف النقل والطاقة، لم تعد أحداثًا استثنائية، بل واقعًا متكررًا يؤثر مباشرة في الأسعار، والتضخم، واستقرار الأسواق.

لقد روّج العالم لعقود طويلة لمفهوم "الكفاءة المطلقة”، التي تعني تقليل المخزون، وخفض التكلفة، والاعتماد على أقل عدد ممكن من الموردين. غير أن الأزمات الأخيرة أثبتت أن هذه الكفاءة، إذا لم تُرافقها مرونة واستعداد للمخاطر، تتحول إلى عبء اقتصادي. فالكفاءة التي تتجاهل المخاطر ليست إنجازًا، بل مخاطرة مؤجلة.

وفي خضم هذه الأزمات، اتجهت العديد من الدول والشركات إلى الحلول الرقمية، مثل الذكاء الاصطناعي وأنظمة التتبع والتحليل التنبؤي. ورغم أهمية هذه الأدوات، إلا أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي. فـرقمنة سلسلة توريد هشة لا تجعلها قوية، بل قد تسرّع من انهيارها إذا لم تُدعَم بتخطيط استراتيجي وتنويع حقيقي لمصادر التوريد.

ما نشهده اليوم هو تحول واضح في فلسفة إدارة سلاسل التوريد، من التركيز على خفض التكلفة إلى التركيز على الاستمرارية، ومن العولمة المطلقة إلى الإقليمية الذكية، ومن المخزون الصفري إلى المخزون الاستراتيجي. هذا التحول لم يعد خيارًا، بل ضرورة تفرضها الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية.

بالنسبة للأردن والدول العربية، فإن التحدي مضاعف بسبب الاعتماد الكبير على الاستيراد، ومحدودية التصنيع، وتأثر المنطقة المباشر بالأزمات الإقليمية. غير أن هذه التحديات تحمل في طياتها فرصة حقيقية لإعادة التفكير في سلاسل التوريد، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير البنية اللوجستية، وتحقيق تكامل إقليمي أكثر فاعلية.

لقد أثبتت التجربة أن سلاسل التوريد لم تعد شأنًا إداريًا أو فنيًا، بل أصبحت قضية أمن اقتصادي واستقرار اجتماعي. ومن جائحة كورونا إلى الحروب، يبقى السؤال مطروحًا: هل نتعلم من الأزمات ونعيد بناء سلاسل توريد أكثر مرونة واستدامة، أم ننتظر الصدمة القادمة بثمن أعلى؟