Authors

البتراء: أيّ سحر يسكن الوردة الصخرية؟ إعجاز الزمان والمكان والإنسان

{clean_title}
Alanbatnews -

د. دانا خليل الشلول

منذ اللحظة التي تضع فيها قدمك عند مدخل السيق؛ تبدأ رحلة عبور لا إلى مدينة وحسب، بل إلى عالم آخر من المعجزات والسحر الذي لا يُوصف. البتراء، تلك الوردة الصخرية، ليست مجرد موقع أثري، وإنما هي معرض إلهي نحتته يد الطبيعة؛ ثم أكملته عبقرية الإنسان، حتى باتت كل مفردات اللغة العربية تعجز عن وصف جمالها الساحر وخلابتها. لذلك؛ يُطرح السؤال الفلسفي العميق: ما هو وجه الإعجاز في هذه المدينة؟ فهل هو سحر المكان؟ أم سحر الزمان؟ أم سحر ساكنيها القدامى الذين جعلوا الصحراء تنبض بالحياة؟
في البداية، إن الدخول عبر السيق هو بحد ذاته طقس روحي؛ إذ تبدأ جدران الصخر الرملي بالهمس، بينما تتوالى الألوان المتبدلة بين الأحمر والأصفر والوردي، وكأنك تسير في عروق الأرض، ويبلغ الإعجاز الإلهي ذروته عند ظهور الخزنة، المنحوتة في قلب الجبل، فتبدو كلوحة نحتها مهندسو السماء. هذا التكوين الفريد للبتراء الوردية يفرض صمتاً مهيباً؛ وهو دليل على عظمة التكوين وجمالية الشقوق التي شهدت آلاف السنين.
بالإضافة إلى ذلك، لا تكتمل المعجزة دون حضور سحر الزمان؛ إذ البتراء هي المدينة المفقودة التي استعادت مجدها، فهي شاهدة على عبقرية الأنباط في ربط الحضارات، الأنباط، هؤلاء القوم الساحرون، لم يكتفوا بالنحت، بل كانوا مثالاً لعبقرية الإنسان في الصمود، فقد استلهموا من محيطهم قدرة استثنائية على إدارة المياه؛ والأهم من ذلك، أنهم عززوا مكانة مدينتهم بـحفاوة التكريم وكرم الضيافة والاستقبال لكل زائر وعابر، جاعلين منها ليس مجرد عاصمة؛ بل واحة آمنة ومرحبة، وبهذا تركوا لنا إرثاً من العظمة لا يمحوه الزمن. وعلاوة على ذلك، فإنَّ لهجتهم البدوية العذبة والقصيدة هي امتداد لصدى التاريخ؛ إذ تنقلك إلى أزمنة غابرة، كما تُعيد إليك الشوق للغة العربية الأم.
وعلى صعيد آخر، خلف الجمال البصري، يكمن سحر الساكنين والهندسة النبطية المذهلة، لقد كانوا مهندسي الصخر الذين حولوا الشقوق إلى قنوات ري، والصخور إلى قصور ومدافن ملكية، محولين الصحراء القاحلة إلى عاصمة للحضارة، هذا الإبداع البشري بالتالي يؤكد أنَّ البتراء هي لقاء مدهش بين الإرادة الإلهية وقوة الإرادة البشرية.
أما الآن، تجسد البتراء اليوم الروح الحية للأردن؛ حيث يوليها سليل الدوحة الهاشمية، قائدنا وشيخنا، جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، رعايةً ساميةً صونًا لإرثها وتطويراً لمستقبلها.
ومن هنا، من قلب أرض العجائب، يرتفع الثناء والتقدير لشعبه الكريم، المضياف، الطيب، الودود. ويملأ قلوبنا اليقين بأن بلدنا وشعبنا والأردن كله بخير؛ طالما هو سيد مسيرتنا وقائدها. وفي الختام، تظل هذه الرعاية الهاشمية الكريمة، التي هي امتداد لدفء قيادتنا، ضمانة استمرار إشعاع البتراء كواحدة من عجائب الدنيا السبع.
في نهاية المطاف، تبقى البتراء، بكل ما فيها من غموض وأسرار، علامة فارقة في سجل تاريخنا الإنساني. إذ إنها رحلة لا تنتهي؛ لأنك مهما طال مقامك فيها، تدرك أنك غادرتها وكلك شوق وحنين إليها؛ فأي حب وأي عشق هذا؟ وعندما تدمع عيناك وأنت تغادر، تتساءل: فكيف للنفس أن تحتمل وجع الفراق عن هذا البلد الساحر أرض العجائب؟ غادرتها، ومع ذلك هي لم تغادرك أبداً. وبناءً عليه، إنها ذاكرة محفورة في الصخر، ونداء دائم للعودة إلى حيث يجتمع سحر الزمان والمكان والإنسان، فأمام المدينة الوردية وسحرها، يذوب اللسان، بين سحر الخالق وعبقرية الإنسان.