Authors

الدفء القاتل: حين تتحول المدافئ في الأردن من وسيلة نجاة إلى حكم إعدام صامت

{clean_title}
Alanbatnews -
خلدون خالد الشقران

الدفء القاتل: حين تتحول المدافئ في الأردن من وسيلة نجاة إلى حكم إعدام صامت

في الأردن، لا يأتي الموت دائمًا على هيئة رصاصة أو حادث سير، بل قد يتسلل بهدوء عبر مدفأةٍ تعمل بصمت داخل غرفة مغلقة. ما شهدته المملكة خلال الأيام الماضية من وفيات واختناقات بسبب المدافئ ليس حدثًا طارئًا ولا مفاجئًا، بل نتيجة متوقعة لمسار طويل من الإهمال، وضعف الرقابة، والاكتفاء بالتحذير بدل المنع، وبردّ الفعل بدل الوقاية. عائلات كاملة فقدت حياتها داخل منازلها، المكان الذي يُفترض أن يكون الأكثر أمانًا، لتتحول لحظات الدفء إلى دقائق اختناق، ثم إلى أخبار عاجلة وبيانات تعزية.

الوقائع المعلنة تشير بوضوح إلى أن غاز أول أكسيد الكربون، المعروف علميًا بالقاتل الصامت، كان السبب المباشر في هذه المآسي. غاز عديم اللون والرائحة، يتراكم في الأماكن المغلقة ويمنع وصول الأكسجين إلى الدماغ خلال وقت قصير، ما يؤدي إلى فقدان الوعي ثم الوفاة دون أي إنذار مسبق. هذه الحقيقة ليست جديدة، بل مثبتة طبيًا ومعلنة عالميًا، ومع ذلك تتكرر الفاجعة كل شتاء، وكأن الأرواح تُستنزف على مذبح التهاون الموسمي.


اللافت أن معظم هذه الحوادث تقع في سياق متشابه: مدافئ غاز أو كاز تُستخدم داخل غرف مغلقة، أو أثناء النوم، أو دون تهوية كافية. ورغم التحذيرات المتكررة من الدفاع المدني والأمن العام، ما تزال الأسواق تزخر بأنواع مختلفة من المدافئ، بعضها لا يلتزم بأدنى معايير السلامة، وبعضها دخل السوق دون رقابة فاعلة تسبق البيع لا تلحقه بعد الكارثة. السؤال هنا لم يعد عن وعي المواطن فقط، بل عن دور الجهات الرقابية التي يفترض أن تمنع الخطر قبل أن يصل إلى غرفة النوم.


التحركات الرسمية جاءت بعد سقوط الضحايا، عبر وقف تداول بعض الأنواع وفتح تحقيقات فنية والتلويح بالمحاسبة القضائية. مجلس النواب ناقش الملف، والحكومة أكدت أن المسؤولين عن إدخال أو تصنيع أو تسويق مدافئ غير آمنة سيُحاسبون. ورغم أهمية هذه الرسائل، إلا أنها تظل جزءًا من إدارة الأزمة لا من منعها، فالمساءلة بعد الوفاة لا تعيد الحياة، والتحقيق بعد الفاجعة لا يُغني عن منظومة رقابة صارمة تمنع المنتج الخطر من الوصول إلى السوق أصلًا.

ما يجري يفرض إعادة طرح سؤال جوهري: هل حياة المواطن أولوية فعلية أم بند مؤجل حتى وقوع الكارثة؟ استمرار الاعتماد على حملات التوعية وحدها، دون تشديد الفحص والمواصفات وسحب المنتجات الخطرة بشكل دائم، يعني القبول الضمني بتكرار المشهد نفسه كل شتاء، مع اختلاف أسماء الضحايا فقط. المسؤولية هنا جماعية، لكنها تبدأ من الدولة بوصفها الجهة الضامنة للأمان العام، وصاحبة القرار في ما يُسمح له بدخول البيوت الأردنية.

المدافئ ليست عدوًا بطبيعتها، لكن تحويلها إلى خطر قاتل هو نتيجة خلل واضح في منظومة السلامة. وما لم تُتخذ إجراءات حاسمة، فإن الدفء سيبقى في الأردن مشروع مخاطرة، وستظل المنازل مهددة بأن تتحول في أي ليلة باردة إلى قبور صامتة. هذه ليست مبالغة صحفية، بل واقع أثبتته الأرقام، وكرسته الوقائع، ودفع ثمنه مواطنون لم يطلبوا أكثر من شتاء دافئ وآمن