chosen_articles

جريدة الأنباط … ذاكرة وطن وصوت الحقيقة

{clean_title}
Alanbatnews -

كتب: ليث الفراية

حين تُذكر الصحافة الأردنية، يُذكر معها ذلك الثقل المهني الذي تركته المؤسسات العريقة عبر عقود طويلة من العمل، وفي مقدمتها جريدة الأنباط هذه المؤسسة ليست مجرد صحيفة يومية تصدر في موعدها المعتاد، بل هي مساحة فكر، ورواية وطن، وذاكرة كتبت نفسها على امتداد تاريخ الأردن الحديث وما يميزها أنها لم تُغلق يومًا أبوابها أمام العقل، ولم تخضع للموجة العابرة، ولم تتنازل عن تلك الروح التي تجعل الصحافة عملاً وطنيًا بامتياز، قبل أن تكون وظيفة أو منصة للنشر.

ومن يقرأ الأنباط قراءة واعية يدرك بسرعة أن النص فيها ليس مجرد كلمات متتابعة، بل جزء من بناء داخلي يربط القارئ بمحيطه، ويقدّم له مقاربة مستقلة للأحداث، ويضعه أمام صورة صافية لما يجري في الحياة العامة فالجريدة لم تكن يومًا ناقلًا محايدًا يمر على الأحداث مرورًا سريعًا، بل كانت مؤسسة تُعيد ترتيب الحدث وتفاصيله، وتقدمه بلغة مسؤولة تشبه لغة الباحث الذي يفتّش عن الحقيقة في عمق المشهد، لا في سطحه.

وقد بنت الأنباط خلال مسيرتها الطويلة علاقة متينة مع القارئ الأردني، علاقة لا تقوم على المجاملة ولا على البحث عن الشعبية، بل على الثقة المتبادلة فالقارئ يشعر أن ما يُنشر فيها يحمل من الصدق ما يكفي ليمنحه اليقين، ويحمل من الهدوء ما يجنّبه الانحياز، ويحمل من التحليل ما يساعده على فهم ما وراء المعلومة، وما بين السطور، وما بعد العنوان وهذه الثقة لا تُمنح بسهولة، ولا تُشترى، بل تُكتسب عبر سنوات من الالتزام المهني والاحترام العميق لقيمة الكلمة.

إن الأنباط ليست مجرد صحيفة وطنية، بل هي مدرسة قائمة بذاتها. كثير من الأسماء التي أصبحت اليوم جزءًا من المشهد الإعلامي المحلي والعربي خرجت من بين صفحاتها، ونهلت من أسلوبها، وتعلمت على أيدي محرريها وصحفييها كيف تكون الكتابة مسؤولية، وكيف يكون الخبر موقفًا، وكيف يكون التحليل جزءًا من البناء الفكري الذي يتجاوز اللحظة المباشرة فهي لم تُخرّج كتّابًا فقط، بل خلقت نمطًا صحفيًا صار مرجعًا في المهنية والرصانة.

ولم تكن الأنباط يومًا صحيفة جامدة تدور في دائرة تقليدية، بل كانت مؤسسة تعي أن التطور ضرورة، وأن الحفاظ على الثوابت لا يعني الوقوف مكانها لذلك انفتحت على الإعلام الحديث، وطوّرت منصاتها، وقدمت محتوى رقميًا يليق بتاريخها حيث لم تغادر الهوية الورقية، لكنها وسّعت حضورها بما يجعلها قريبة من الجيل الجديد دون أن تفقد علاقتها بجيلها القديم واستطاعت ببراعة أن تضع نفسها في المكان الذي تشعر فيه كل فئة من فئات المجتمع بأنها أمام مؤسسة تفهمها وتحترم عقلها.

ويعرف القارئ جيدًا أن الأنباط لم تترك حدثًا محليًا أو وطنيًا أو عربيًا من دون أن تقدم له قراءة واسعة تشرح السياق وتفهم البيئة وتُظهر الخلفيات فهي ليست صحيفة تنقل الخبر، بل صحيفة تبني على الخبر، وتُعيد صوغ المشهد العام بلغة تعتمد على التحليل والتأمل والتدقيق وفي أوقات الأزمات، كانت قادرة على الإمساك بخيط الحقيقة وسط تشابك الروايات، وكانت تقدم خطابًا متزنًا ينأى عن الإثارة، ويُجنّب الناس المبالغة، ويوفر لهم مساحة للتفكير لا تفرض عليهم رأيًا ولا تُغلق أمامهم باب السؤال.

أما على الصعيد الوطني، فقد عاشت الأنباط في قلب التحولات الكبرى التي مرّ بها الأردن، ولم تكن مراقبًا صامتًا، بل كانت شريكًا في نقل الوعي من مرحلة إلى أخرى وقدّمت في صفحاتها مقالات وملفات تناولت قضايا الإصلاح، والتعليم، والتنمية، والشباب، والاقتصاد، والسياسات العامة، بطريقة جعلت منها مائدة فكرية مفتوحة لكل من يريد أن يفهم ما يجري بعمق بعيد عن العاطفة.

لقد كانت الأنباط دائمًا جزءًا من تلك القوة الناعمة التي تبني صورة الدولة، وتحافظ على تماسها مع الناس، وتقدم خطابًا عقلانيًا يتجاوز الانفعال ويرتكز على بنية تحليليّة محسوبة.

وما يجعل الأنباط متفردة بحق أنها استطاعت، رغم كل التحولات التي مر بها الإعلام، أن تحافظ على موقعها كأحد أهم مصادر الثقة فالمصداقية التي تحملها الجريدة اليوم لم تُبْنَ في يومٍ أو شهر، بل تشكلت عبر عمل يومي متواصل، ودهاء مهني، وقدرة على قراءة الواقع دون مبالغة، وإرادة ثابتة على تقديم المادة الصحفية بوصفها خدمة للمجتمع، لا بوصفها سلعة تجارية ولذلك، حين يفتح القارئ صفحاتها، يشعر أنه أمام مؤسسة تنحاز للحقائق، لا للضجيج، وتبحث عن العمق، لا عن العناوين السهلة.

وتبقى الأنباط، بكل ما راكمته من خبرة ووعي، صورة صافية للصحافة التي تعرف طريقها، ولا تسمح للظروف أن تملي عليها أسلوبها فهي صحيفة تُشبه الأردن في نقائه وهدوئه ورغبته المستمرة في أن يبقى ثاب…