الأمطار الوميضية في الأردن: من حصاد المياه إلى إدارة السيول وبناء أمن مائي جديد

الأمطار الوميضية في الأردن: من حصاد المياه إلى إدارة السيول وبناء أمن مائي جديد

بقلم سعيد المصري

نحن اليوم في قلب شهر كانون الأول، وقد بشّرتنا أمطار الخير بموسم يبعث الأمل بعد عام مطري سابق مثقل بالشح. نأمل أن يتمّ هذا الموسم على خير ما نهوى، فتمتلئ سدودنا الدائمة والترابية، وتكتنز تربتنا رطوبةً تسعفنا في صيف قادم لا يرحم. غير أن هذا التفاؤل المشروع لا يجب أن يحجب عنا حقيقة باتت راسخة: المناخ الذي نعرفه لم يعد هو ذاته.

فمنذ نهاية العقد الأخير من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، شهد الأردنكما سائر الإقليمتغيّرات مناخية عميقة غيّرت معالم مواسم الهطول المطري، ومعدلاته، وجغرافيته. لم تعد الأمطار منتظمة، ولا موزعة زمنياً كما اعتدنا، بل أصبحت في كثير من الأحيان أمطاراً وميضية سريعة الهطول، شديدة الغزارة، قصيرة الزمن، وعالية الخطورة.

هذه الحقيقة العلمية تستوجب إعادة توصيف الظاهرة، لكنها قبل ذلك تستوجب إعادة تفكير جذري في فلسفة إدارة المياه السطحية.

تحوّل الغاية: السدود والحفائر كأدوات إدارة سيول لا مجرد تخزين

تقليدياً، أُنشئت السدود والحفائر الترابية في الأردن ضمن مفهوم "الحصاد المائي، أي تجميع المياه في بحيرات مختارة في مواقع محددة من المملكة. لكن التغيّر المناخي فرض تحوّلاً في الغاية، لا في الأداة فقط.

اليوم، لم تعد هذه المنشآت مجرد خزانات مائية، بل تحوّلتأو يجب أن تتحولإلى مصدّات هيدرولوجية لإعاقة حركة السيول الوميضية السريعة، وتخفيف طاقتها التدميرية، وإعادة توزيع المياه مكانياً وزمانياً.

هذا التحول يعني أن إقامة السدود والحفائر الترابية يجب ألا تقتصر على مواقع تقليدية محدودة، بل أن تمتد إلى كافة المساقط المائية النشطة في المملكة، وبخاصة في البادية الأردنية، وعلى تخومها مع الريف الزراعي.

حقيقة مغفلة: أكثر من 3500 مسقط مائي غير مستغل

تشير التقديرات الفنية إلى وجود أكثر من 3500 مسقط مائي في البادية الأردنية وحدها، لم يُستغل منها حتى الآن سوى ما يقارب 6% فقط. هذه ليست فجوة تخطيطية عابرة، بل خسارة وطنية مركبة:

خسارة مياه تُهدر سنوياً
خسارة فرص تنموية رعوية وزراعية
خسارة أدوات طبيعية لمكافحة التصحر
خسارة إمكانية دعم الأحواض الجوفية المتدهورة

إن مجرد فتح هذا الملف بجدية، ومسح هذه المساقط، وتصنيفها، يشكّل مشروعاً وطنياً قائماً بذاته.

نحو استراتيجية وطنية مشتركة بين الزراعة والمياه والبيئة

التعامل مع الأمطار الوميضية لا يمكن أن يبقى مجزأً أو قطاعياً. المطلوب اليوم هو إعادة صياغة استراتيجية وطنية مشتركة بين ثلاث وزارات سيادية:

وزارة المياه والري
وزارة الزراعة
وزارة البيئة

استراتيجية تقوم على التوسع المنهجي، المتدرج، والمدروس في إنشاء حفائر وسدود ترابية صغيرة ومتوسطة، موزعة جغرافياً وفق خرائط المساقط المائية، وليس وفق حدود إدارية.

تصنيف الحفائر والسدود بحسب الغايات

أولاً: حفائر رعويةمخصصة لسقاية الثروة الحيوانية، وتخفف الضغط عن مصادر المياه الجوفية، وتدعم استقرار المجتمعات الرعوية.

ثانياً: بحيرات زراعيةبيئيةتُستخدم لري الزراعة البعلية المساندة، وتساهم في مكافحة التصحر وتثبيت التربة، وتعيد إحياء الغطاء النباتي الطبيعي.

ثالثاً: منشآت إدارة سيولتهدف إلى إبطاء السيول الوميضية، وتقلل مخاطر الفيضانات والانجراف، وتحمي البنية التحتية والقرى الواقعة في مجاري السيول.

رابعاً: منشآت تغذية جوفيةتُستخدم المياه السطحية المتجمعة لحقن الأحواض الجوفية، وتعالج تراجع المنسوب وارتفاع الملوحة، وتعزز الاستدامة طويلة الأجل للمياه الجوفية.

الهندسة أولاً: شرط السلامة والاستدامة

نجاح هذا التوجه مرهون بشرط حاسم: التصميم الهندسي السليم. فالأمطار الوميضية تحمل طاقة تدميرية عالية، وأي خطأ في التصميم قد يؤدي إلى انهيار السد أو الحفيرة، وما يرافق ذلك من مخاطر بشرية وبيئية.

لذلك، يجب اعتماد معايير هندسية محدثة، ودراسة سرعات الجريان القصوى، واستخدام مواد مناسبة لطبيعة التربة، وضمان مفيضات آمنة ومدروسة.

سؤال مشروع: هل ما زالت عدم الجدوى الاقتصادية قائمة؟

يبقى السؤال المركزي: هل ما زال بعض خبراء المياه يتبنون فكرة عدم الجدوى الاقتصادية للتوسع في هذه المنشآت؟

أم أن الواقع الجديدحيث تعاني الدولة في تأمين نقطة الماء، أولاً للشربفرض مراجعة هذا المنطق؟

اليوم، يتاح لدينا أقمار صناعية لرصد الهطول والمساقط، ومسيّرات لمسح الأرض والوديان، وكفاءات وطنية في التصميم والتنفيذ، وحاجة مائية تتفاقم سنوياً. فما الذي يمنع؟

مشروع وطني ثانٍلا يقل أهمية عن الناقل الوطني

إن مشروع التوسع في إدارة المساقط المائية والحفائر والسدود الترابية يجب أن يُنظر إليه بوصفه المشروع الوطني الثاني بالأهمية بعد الناقل الوطني.

بل إن واجبنا تجاه ساكني هذا الحمى يفرض علينا تأمين موارد مائية إضافية قد تتجاوز في مجموعها الكمي ما يوفره الناقل الوطني نفسه، ولكن بكلفة أقل، وبأثر بيئي وتنموي أوسع، وبمرونة أعلى في مواجهة تغيّرات المناخ.

إذن

لسنا أمام خيار ترفي، بل أمام ضرورة وطنية. الأمطار الوميضية ليست نقمة إذا أُديرت بعقل الدولة، وليست نعمة إذا تُركت للفوضى.

بين هذين الحدّين، تقف مسؤولية القرار، والتخطيط، والتنفيذ.

والسؤال اليوم لم يعد: هل نستطيع؟ بل: متى نبدأ؟