صراعاتهم وصراعاتنا.
حاتم النعيمات
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الحروب خارج الإقليم العربي حالة استثنائية، وحتى إن وقعت فإنها تكون ذات نمط مختلف من ناحية طريقة إدارتها وشكل المفاوضات المرتبطة بها وصولًا إلى الحل، ومع أن بعض هذه الصراعات عميقة الجذور، وبعضها يمتد لعقود أو قرون، لكنها غالبًا ما تُضبط وتُحتوى وتُغلق قبل أن تتحول إلى مسار مدمر.
الصراع بين الهند وباكستان يعتبر واحدًا من أوضح الأمثلة على ما أقصده؛ فالخلاف بين الدولتين النوويتين تاريخي دموي وعنوانه الحدود والأمن، ومع ذلك، فإن آخر جولة تصعيد بعد هجوم بهلغام في نيسان الماضي، ورغم القصف الجوي المتبادل، توقفت خلال أيام، ولم تتدحرج إلى حرب مفتوحة، ولم تتشكل على أثرها مليشيات وفوضى. المشهد ذاته تكرر مؤخرًا في الاشتباكات بين تايلاند وكمبوديا على خلفية نزاع حدودي قديم، حيث أُبرمت هدنة بعد سقوط قتلى وقصف مدفعي، وانتهت الجولة. أما بالنسبة لحرب روسيا وأوكرانيا التي تجري لأجلها اليوم مفاوضات مكثفة قد تنهيها في أي لحظة، فهذه تعتبر من الغرائب إذا تقول التقارير أن عدد القتلى المدنيين من جرائها لم يصل الألف.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا لا يحدث هذا في منطقتنا؟ لماذا تتحول الحروب في منطقتنا إلى مسارات طويلة، متشظية، تتناسل ولا تنتهي، حتى تصبح واقعًا دائمًا كارثيًا؟
من الواضح أن لدي أبناء المنطقة علاقة غير معرّفة تاريخيًا مع فكرة الدولة نفسها، فمجتمعات المنطقة العربية تشكّلت عبر أنماط ما قبل الدولة: القبيلة، الطائفة، والعائلة الموسعة. وهذه البنى، بطبيعتها كانت وما تزال قادرة على تنظيم شؤونها والدفاع عن مصالحها دون حاجة حقيقية لمركزية الدولة، ومع الزمن، لم تتطوّر الحاجة النفسية والعملية إلى الدولة بوصفها الإطار المرجعي، بل بقيت في الوعي الجمعي كيانًا منافسًا، وأحيانًا معاديًا لهذه البنى.
على الهامش، فهذا توصيف ذو صبغة أنثروبولوجية تطورية، لا تعميم فيه ولا تجاهل للتجارب المختلفة، فهناك نماذج عربية ناجحة نسبيًا، والأردن مثال مهم، إذ لم تكن العشيرة كتنظيم نقيضًا للدولة، بل شريكًا في تأسيسها وأنشأت علاقة واعية بين الحكم والمجتمع، لتصبح العشيرة جزءًا من منظومة الاستقرار لا عبئًا عليها، وهو ما يفسّر قدرة الدولة الأردنية على الصمود وسط إقليم مشتعل، وتجاوز أزمات أطاحت بدول أخرى.
وبالعودة إلى نمط الصراعات في المنطقة، لا بد أن نبدأ من احتلال فلسطين الذي يعتبر محركًا مهمًا للأزمات، فهذا الحدث لم يخلق صراعًا مع عدو خارجي فحسب، بل فجّر علاقة الشك بين الشعوب العربية ودولها، واضطرت الأنظمة السياسية، بغض النظر عن أخطائها، إلى مواجهة كيان مدعوم من القوة الأعظم عالميًا، بينما قرأت قطاعات واسعة من المجتمعات سلوك هذه الأنظمة في إدارة هذه المواجهة على أساس أنه تواطؤ أو عجز، وهنا حدث الشرخ الأكبر بين الشعوب والدولة التي فقدت مكانتها الرمزية، وبدأ البحث عن بدائل، فظهرت الميليشيا باعتبارها كيانًا أنقى من الدولة "المتخاذلة"، وبرز التنظيم الخارج عن الدولة بوصفه الأصدق في مواجهة إسرائيل.
القوى الدولية والإقليمية فهمت هذه الثغرة مبكرًا. فاستُثمرت قابلية المنطقة لإنتاج تنظيمات عابرة للدولة: من توظيف بريطانيا لتنظيم الإخوان في سياقاتها الاستعمارية، إلى دعم الولايات المتحدة للمجاهدين في أفغانستان وما كان لذلك من ارتدادات الى منطقتنا، وصولًا إلى شبكات الميليشيات التي صنعتها أو موّلتها قوى إقليمية في سوريا والعراق ولبنان، سواء كانت تركيا أو إيران. لم تكن هذه الظاهرة صدفة، بل نتيجة لبنيوية اجتماعية وليس تجميع للظروف.
ما زاد الطين بلة بتصوري هي تلك القطيعة الخطيرة مع العلم والعقل المنهجي؛ في مجتمعاتنا نميل إلى تمجيد الصوت العالي على حساب الفكرة، والعنتريات بدلًا من التخطيط، والشعارات للاستغناء عن البحث والمعرفة، وهذا بدوره تسبب بتهميش العقل العلمي، وتجريف البيئة التي تنتج حلولًا واقعية. فكانت النتيجة مجتمعات تعيش على الأوهام، وتخوض حروبًا طويلة وقودها الفوضى، لا تنتهي حين يقرر أهلها، بل حين تقرر العواصم التي تمتلك المعرفة والتكنولوجيا وأدوات الحسم.
الخلاصة أن الخروج من هذه الحلقة لا يبدأ بالسلاح، بل بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية بوصفها الإطار الأصلح والأقرب لشكل العالم اليوم، وتعتبر نطاقًا محصورًا للبدء في ترميم الثقة بين الدولة ومواطنيها، وقطع الطريق على كل من يبني ولاءاته وعداواته خارج هذا الإطار. ما نشهده اليوم من تراجع لمنظومات الميليشيا، وصعود متدرج لفكرة الدولة في بعض ساحات الإقليم، فرصة لمراجعة شاملة وصادقة، مراجعة تبدأ من الاعتراف بأن العداء المزمن مع الدولة والعلم، هو أحد أهم أسباب أن حروبنا تطول، وأن أوطاننا تنزف أكثر مما تحتمل.