إدراج شجرة زيتون المهراس على قائمة التراث الثقافي غير المادي
الدكتور سلطان المعاني
يتقدّم الأردنيون اليوم بتهنئةٍ حقيقية لوطنهم، مع إدراج شجرة زيتون المهراس في عجلون على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لدى اليونسكو؛ إنجاز أعلنته وزارة الثقافة بوصفه مكسبًا وطنيًا يكرّس حضور الأردن في خريطة التراث العالمي، من باب العناصر المؤسسة للهوية والعيش اليومي.
هذه الشجرة المعمّرة، التي تقف في منطقة الميسر في بلدة الهاشمية قرب حلاوة في عجلون، ليست مجرد كائن نباتي نادر؛ هي شجرة سلالاتٍ كاملة، تُعدّ «أمًّا» لأنواع أخرى من الزيتون في حوض المتوسّط، كما يرد في بيانات وزارة الثقافة والمركز الوطني للبحوث الزراعية. جذعها الذي يحتاج أكثر من ذراعين ليُحاط، وحضورها في ذاكرة أهل القرى المجاورة، يحوّلانها إلى شاهدٍ حيّ على طبقات متعاقبة من التاريخ: من العصور القديمة إلى العهدين الروماني والإسلامي، وصولًا إلى المزارع الأردني المعاصر الذي ما زال يقطف منها ثمرًا وزيتًا وحكايات.
الجديد اليوم أنّ الاعتزاز الشعبي بزيتون المهراس يستند إلى برهانٍ علمي صارم. فريقٌ وطني من المركز الوطني للبحوث الزراعية والجامعة الأردنية وجامعة جرش أنجز تسلسلًا كاملًا للمادة الوراثية في الكلوروبلاست والميتوكوندريا لشجرة المهراس، ونُشرت النتائج في مجلة علمية محكّمة مصنّفة ضمن قواعد بيانات سكوبس أظهرت تحاليل شجرة النَّسَب الوراثية أنّ «المهراس» يملك سلفًا مشتركًا قديمًا مع أصناف الزيتون المزروعة في إيطاليا وإسبانيا وقبرص، وأنه الأقرب جينيًا لأن يكون أصلًا تاريخيًا لتلك الأصناف المتوسّطية الشهيرة.
هذا الاكتشاف يعيد رسم خريطة منشأ الزيتون العالمي. فالتحليل الذي أنجزه الفريق الأردني يؤكد ما راكمته دراسات سابقة عن أنّ بلاد الشام، ومنها الأردن، تشكّل أحد المراكز الرئيسة لأصل شجرة الزيتون واستئناسها عبر العصور، وأنّ «المهراس» يمثّل سلالةً جينيةً نادرة حافظت على تنوّعها عبر مئات السنين، مع قدرةٍ عالية على التكيّف مع تغيّر المناخ والجفاف، من دون أن تتنازل عن جودة الزيت التي يعرفها أهل المنطقة جيدًا.
من هنا يصبح اسم الشجرة قضية ذاكرةٍ ومعنى، لا مسألة اصطلاح زراعي فحسب. لسنواتٍ طويلة شاع في الخطاب اليومي تعبير «زيتون رومي أو رومانِي» لوصف هذه الأشجار المعمّرة، في إحالةٍ إلى الحقبة التاريخية التي مرّت بها المنطقة. غير أنّ المركز الوطني للبحوث الزراعية يعمل اليوم على تثبيت اسم «المهراس» في السجلّات الرسمية والبنوك الجينية، واستبداله بالتسمية الدارجة «الرومي»، لأن الكلمة الأخيرة تحيل إلى قوّةٍ إمبراطورية عابرة، بينما الاسم المحلي المرتبط بقياس محيط جذع الشجرة يعبّر عن خبرة الفلاحين وعن لغتهم الخاصة في تصنيف أشجارهم.
تعديل التعبير من «زيتون رومي» إلى «زيتون الأجداد العربي المهراسي المبارك» هو تصحيح لمسار روايةٍ كاملة. حين نُعيد تسمية الشجرة باسمها الأردني، ونعترف – استنادًا إلى البحث العلمي – بأنّ أصناف الزيتون في إيطاليا وإسبانيا وقبرص تعود في جزءٍ من أصولها الجينية إلى هذه السلالة العجلونية العتيقة، فإننا نعيد للأردن موقعه الطبيعي بوصفه منشئًا للمعرفة الزراعية، لا مجرد متلقٍّ لها من ضفافٍ أخرى للمتوسط.
اليونسكو، حين أدرجت «شجرة زيتون المهراس» على قائمة التراث الثقافي غير المادي، لم تكن تحتفي بجذعٍ وأغصانٍ وزيتٍ فقط، وإنما بسلسلة الممارسات التي تلتفّ حولها: طقوس القطاف، الأغاني الشعبية، المواسم الريفية، الصناعات التقليدية والطبية التي تبدأ من ثمرتها وخشبها وتصل إلى موائد الأردنيين في الريف والمدينة. القرار وصف الشجرة بأنّها أصلٌ لسلالاتٍ أخرى، وعناصر الحياة حولها بوصفها جزءًا من عيش الناس اليومي ومخيالهم الجماعي.
هذا الاعتراف العالمي يضع على عاتقنا مسؤولياتٍ ملموسة. حماية المهراس ليست فقط حماية عددٍ محدود من الأشجار المعمّرة من التعدّي العمراني أو من اقتلاعها لزينة الفنادق والفلل، كما حذّر باحثون ومختصون، وإنما هي أيضًا حماية لحقول الزيتون كلّها بوصفها مخزونًا بيئيًا واقتصاديًا وثقافيًا. الخطط الوطنية لإنشاء مجمّعات وراثية لزيتون المهراس، وإكثار أشتاله وتوزيعها على المزارعين، تفتح أفقًا لاقتصادٍ أخضر يستند إلى سلالة أردنية مميّزة تحمل توقيع هذا الوطن في كل قطرة زيت.
في ضوء ذلك، تبدو الخطوة التالية بديهية: أن نُدرّس قصة المهراس في مناهجنا، وأن تظهر صور هذه الشجرة على طوابعنا، وعلى عبوات الزيت الأردني المصدَّر إلى العالم، وعلى حملات الترويج للسياحة الريفية في عجلون وغيرها. هكذا يتحوّل «زيتون الأجداد العربي المهراسي المبارك» إلى علامةٍ تجارية ومعرفية في آن واحد؛ علامةٍ تقول للعالم إنّ هذا البلد الصغير في الجغرافيا، الكبير في طبقات تاريخه الحيّ، ما زال يضيف إلى المتوسّط شجرًا وزيتًا وسرديةً جديدة تُكتب هذه المرّة بيد أصحابه.