د.عمار محمد الرجوب يكتب :الثقافة: مرآة المجتمعات وأداة التغيير

الثقافة: مرآة المجتمعات وأداة التغيير
في عالم متغير تحكمه العولمة والتكنولوجيا، تظل الثقافة واحدة من الركائز الأساسية التي تعكس هوية المجتمعات وتوجه مسارها. الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد، بل هي مفهوم أوسع يعبر عن نظام كامل من القيم والمعتقدات والسلوكيات التي تنظم حياة الأفراد داخل مجتمع معين. في هذا المقال، سنستعرض دور الثقافة كمرآة للمجتمعات وأهميتها كأداة للتغيير والتحول.
الثقافة تمثل الحاضنة التي تتشكل فيها هويات الأفراد والجماعات. هي نتاج تفاعل الإنسان مع بيئته، وما يبتكره من فنون، أدب، علوم، وحتى أنماط الحياة اليومية. يقول عالم الأنثروبولوجيا إدوارد تايلور إن الثقافة هي "المركب الكلي الذي يشمل المعرفة، والعقائد، والفنون، والقانون، والأخلاق، وأي قدرات أو عادات يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع."
من خلال هذا التعريف، يمكننا إدراك أن الثقافة ليست موروثاً جامداً، بل نظام ديناميكي يتأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
التاريخ مليء بالأمثلة على دور الثقافة في قيادة التغيير. لنأخذ على سبيل المثال عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر. لقد كان هذا العصر نقطة تحول كبرى، حيث أعادت الثقافة إحياء الاهتمام بالفن والعلم والفلسفة، ما أدى إلى تغييرات هائلة في النظام الاجتماعي والسياسي الأوروبي.
اليوم، نجد أن الثقافة تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز قيم التعددية والتسامح. في المجتمعات التي تحتضن التنوع الثقافي، غالبًا ما نلاحظ مستويات أعلى من الإبداع والابتكار. دراسة أجرتها جامعة هارفارد أظهرت أن الشركات التي تعمل في بيئات ثقافية متنوعة لديها قدرة أكبر على حل المشكلات واتخاذ قرارات استراتيجية فعالة بنسبة تصل إلى 30%.
مع ظهور الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح نشر الثقافة أسرع وأكثر شمولاً. على سبيل المثال، الثقافة الكورية (K-pop) استطاعت خلال العقد الأخير أن تتحول من ظاهرة محلية إلى حركة عالمية بفضل التكنولوجيا. الموسيقى، الأفلام، وحتى الأطعمة الكورية أصبحت مألوفة في جميع أنحاء العالم.
لكن، لا يخلو الأمر من التحديات. العولمة الثقافية، رغم إيجابياتها، قد تؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية. كثير من المجتمعات تواجه صعوبة في الحفاظ على خصوصيتها الثقافية وسط تدفق محتوى ثقافي عالمي موحد.
في العالم العربي، تشكل الثقافة مزيجًا غنيًا من التراث العريق والحداثة. الخط العربي، الشعر، والعمارة الإسلامية هي أمثلة على عناصر ثقافية استثنائية تميزت بها الحضارة العربية. ومع ذلك، فإن التحدي يكمن في كيفية إعادة إحياء هذا الإرث الثقافي وربطه بمتطلبات العصر الحديث.
على سبيل المثال، المبادرات التي تجمع بين الفن التقليدي والتكنولوجيا مثل التطبيقات الرقمية لتعليم الخط العربي، تمثل نموذجًا جيدًا على كيفية تحقيق هذا التوازن.
كل فرد لديه القدرة على أن يكون سفيرًا للثقافة. مشاركة قصص تراثية، تعلم لغات جديدة، أو حتى تبني أسلوب حياة يعكس القيم الثقافية الأصيلة، كلها خطوات بسيطة لكنها مؤثرة.
كما قال جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين: "ثقافتنا هي سلاحنا في وجه التحديات، وهي الرابط الذي يجمعنا في تنوعنا واختلافنا."
وأقول: "الثقافة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي فعلٌ نصنعه بأيدينا، ومسارٌ يُرسم بخطواتنا. إنها الحياة التي تعكس حقيقتنا، والذاكرة التي تحفظ وجودنا."
الثقافة ليست مجرد مرآة تعكس هوية المجتمع، بل هي أداة حيوية يمكنها تشكيل مستقبله. في عالم يتسم بالتحديات والتحولات، يجب أن نعمل على تعزيز قيمنا الثقافية مع الانفتاح على ما يقدمه العالم من تنوع وإثراء.

بقلمي
د. عمّار محمد الرجوب