صالح سليم الحموري يكتب:جراحة ذاتية لعقلك
جراحة ذاتية لعقلك
صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية
في ظل التحولات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها العالم اليوم، وبعد مشاركتي هذا العام في فعاليات مثل "القمة العالمية للحكومات"، و"قمة المعرفة 2024"، و"منتدى دبي للمستقبل"، حيث ألقى جهابذة وصناع الذكاء الاصطناعي من كبرى الشركات العالمية مثل "جوجل"، "إنفيديا"، "مايكروسوفت"، و"أوبن أيه آي" وغيرها الضوء على أحدث الابتكارات في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، أدركت بوضوح أن التكيفات التقليدية وأساليب التفكير التي اعتمدناها لعقود لم تعد تواكب هذا الزخم الهائل من التغيرات.
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تدريجي، بل هو تسارع استثنائي "أوسي" يفرض علينا إعادة صياغة جذريّة لنهجنا في التفكير والعمل. هذا التحول يتطلب تبني رؤى أكثر مرونة وإبداعاً تمكننا من مواكبة الواقع الجديد، بل وتجاوزه. لم يعد التحدي مقتصراً على القدرة على التكيف مع التغيرات المتسارعة، بل أصبح يتمثل في القدرة على القيادة الفاعلة والمساهمة في صياغة ملامح المستقبل، لنكون صُنّاعاً له لا مجرد متأثرين به.
لم يعد من المجدي أن نواصل التفكير والتعلم بالطريقة التي اعتدنا عليها؛ فالواقع الجديد يتطلب منا تحولاً جذرياً، لا يقتصر على التعديلات السطحية، بل يمتد إلى عمق العقل ذاته، حيث يصبح التجديد وإعادة هيكلة التفكير ضرورة لا خياراً، لاستيعاب التحديات واستثمار الفرص في عالم يعاد تشكيله باستمرار.
في هذا السياق، يبرز مفهوم "الجراحة الذاتية للعقل"، وهو عملية إعادة هيكلة شاملة ومستدامة للطريقة التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع العالم من حولنا. هذا التحول ليس مجرد استجابة للمتغيرات، بل هو شرط أساسي للتفاعل مع واقع جديد يفرض علينا تبني نهج أكثر مرونة وإبداعاً، يمكننا من استيعاب المتغيرات واستثمارها بدلاً من مقاومتها.
هذه الجراحة الذاتية ليست مجرد محاولة للتأقلم مع التغيرات، بل هي عملية واعية لإعادة هيكلة تفكيرنا بحيث نصبح أكثر "رشاقة وإبداعاً بالتفكير"، واستعداداً لاستيعاب المجهول واستثماره. إنها تتطلب القدرة على اكتساب "مهارات جديدة" ربما لم نكن نتخيل أننا سنحتاجها يوماً، مثل التفكير الإبداعي، التحليل العميق، والقدرة على تحويل التحديات إلى فرص.
عندما نتحدث عن "الجراحة الذاتية للعقل"، فإننا نتحدث عن التحول من حالة التفكير التقليدي إلى تبني "التفكير الإبداعي" كأداة أساسية. التفكير الإبداعي هو القدرة على تجاوز الأنماط المعتادة، ورؤية التحديات على أنها فرص كامنة. إنه التفكير الذي لا يكتفي بالبحث عن الإجابات التقليدية، بل يبدأ بطرح الأسئلة غير المألوفة التي تفتح آفاقاً جديدة.
الأسئلة النوعية تشكل المفتاح الأساسي للتحول الفكري والإبداعي. وكما قال ألبرت أينشتاين "لو كان لدي ساعة واحدة فقط لحل مشكلة ما، لقضيت أول 55 دقيقة في التفكير في السؤال الصحيح لطرحه، لأنني إذا عرفت السؤال المناسب، يمكنني حل المشكلة في أقل من خمس دقائق." هذا الاقتباس يعكس أهمية صياغة الأسئلة بذكاء وعمق، حيث أن السؤال المناسب لا يقتصر دوره على البحث عن الإجابة، بل يفتح آفاقاً جديدة للتفكير والإبداع.
بدلاً من الاستفسارات الروتينية التي غالباً ما تؤدي إلى إجابات تقليدية ومكررة، تدفعنا الأسئلة الجريئة إلى التفكير بطرق غير مألوفة. على سبيل المثال، عوضاً عن السؤال التقليدي: "كيف يمكننا حل هذه المشكلة؟"، يمكننا أن نتساءل: "ما الذي يمكن أن تعلمنا إياه هذه المشكلة؟ وكيف يمكننا إعادة صياغتها لتكون نقطة انطلاق نحو الابتكار والتطوير؟"
بهذا النهج، تصبح الأسئلة النوعية أدوات استكشاف قوية تفتح لنا أبواباً جديدة للحلول، وتعزز قدرتنا على مواجهة التحديات بمرونة وابتكار. إنها ليست مجرد استفسارات، بل محركات للتغيير والتجديد الفكري.
التفكير الإبداعي ليس مجرد نشاط عقلي عابر، بل هو نهج حياتي يعزز الرؤية العميقة والقدرة على التعامل مع التعقيدات. لتحقيق هذا النهج، يتطلب الأمر امتلاك "الرشاقة الذهنية"، وهي مزيج من السرعة في توليد الأفكار والعمق في تحليلها، مما يتيح الوصول إلى حلول مبتكرة وشاملة. هذه الرشاقة لا تنحصر في التفكير الفردي، بل تزدهر من خلال التفاعل مع الآخرين، تبادل الأفكار، والاستفادة من وجهات نظر متنوعة تسهم في إحداث تغيير حقيقي.
إن مفهوم "الجراحة الذاتية للعقل" ليس مجرد تعبير مجازي، بل هو ضرورة حتمية في عالم يشهد تغييرات متسارعة وغير مسبوقة. في هذا السياق، يصبح التفكير الإبداعي والرشاقة الذهنية الأداتين الجوهرية للنجاح والبقاء. هذا التحول الفكري يستدعي منا أن نرى أنفسنا كمهندسي المستقبل، قادرين على تخطي الحواجز التقليدية وصياغة عالم يتميز بمرونة أكبر وإبداع لا حدود له.