أحمد الضرابعة يكتب :المجلس النيابي العشرون: من العمل الفردي المبعثر إلى العمل الجماعي المنظّم
المجلس النيابي العشرون: من العمل الفردي المبعثر إلى العمل الجماعي المنظّم
مع إجراء أول اختبار لمشروع التحديث السياسي، وأعني هنا انتخاب المجلس النيابي العشرين، واستعادة الأحزاب السياسية دورها المحوري في العملية السياسية، بعد استحواذها على 104 مقاعد نيابية من أصل 138 مقعداً، فإن ذلك يرفع سقف التوقعات بشأن العمل البرلماني تحت القبة، وهو الذي تعرّض لانتقادات واسعة في دورات انتخابية سابقة، لأسباب عديدة، كان من بينها تأثّره بظاهرة العمل الفردي التي أدت لتشتيت جهود النواب وتراجع الأداء الكلي للمجلس، وضعف التمثيل الحزبي بسبب ضعف الأحزاب السياسية نفسها، إلى جانب التصورات الاجتماعية بشأنها، والأنظمة الانتخابية وغير ذلك من الأسباب التي بدأت تتلاشى، لتمهّد الطريق نحو ولادة مجلس نيابي حزبي، تقع على عاتقه مهمّة وطنية لا بد من تنفيذها لمواصلة عملية التحديث بكل ثقة.
هذه المهمة تتمثل بتقديم نموذج جديد في العمل البرلماني، يخلو من كافة الممارسات الخاطئة والمشوّهة التي وُجدت في مجالس نيابية سابقة، وكان من أسباب وجودها عدم ارتباط النواب بالمرجعيات الحزبية، وهي التي يتم إكسابهم من خلالها قواعد العمل السياسي والبرلماني، إلى جانب أسباب أخرى لا تقل أهمية عمّا أشرنا له، أدت مجمتعةً لتراجع ثقة المواطنين في المجالس النيابية إلى ما نسبته 17%، كما دل استطلاعٌ أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية عام 2022.
ثمة إشارات تدل على أن هذا النموذج المنتظر، بدأت ترتسم ملامحه، فانتخابات المكتب الدائم لمجلس النواب، سبقها تحضيرات حزبية، شملت توزُّع معظم النواب في كتل وتحالفات حزبية قامت على أساس الطيف السياسي، أدت لانتخاب أحمد الصفدي رئيساً للمجلس.
أعتقد أن التفاعلات الحزبية والكتلوية التي جرت قبل انتخاب المكتب الدائم للنواب، كانت أهم منه بكثير، كونها لعبت دوراً حاسماً في تشكيل ديناميكيات العمل البرلماني، ورسم خارطة التحالفات والتوازنات تحت القبة، والتي نأمل ألا تكون تكتيكية فحسب.
في السياق ذاته، يجب أن تشمل مواصفات النموذج النيابي الجديد الذي ننتظره، إيمان النواب بأهمية العمل الجماعي، الحزبي أو الكتلوي وأن يكون استراتيجياً، لزيادة كفاءة الأداء البرلماني، ومن الضروري أن تتحول البرامج الحزبية إلى دليلٍ يساعد النواب على تحديد أهدافهم بوضوح، وأن تكون خطاباتهم ناضجة، لا تفتقر للعمق السياسي أو الاقتصادي، ولا تكتفِ بتشخيص الأوضاع دون تقديم مقترحات وبدائل لمعالجتها، والأهم أن تخلو من الشعبوية والمزايدة والنقد الهدّام. كما يجب أن يشمل هذا النموذج سلوكاً نيابياً متزناً، يُستدلُّ من خلاله على وجود ثقافة حزبية حقيقية يمكن من خلالها تطوير مبادئ وقيم العمل البرلماني. ومن البديهي أن يتم نبذ العنف والفوضى لمعالجة أي خلاف قد يحدث تحت القبة، وأن يلتزم النواب بالنظام الداخلي، وأن يعتدل المكتب الدائم في تطبيق أحكامه.
يملك المجلس النيابي الحالي، بحكم مكوّناته الحزبية والكتلوية، فرصة مثالية لكتابة صفحة جديدة في تاريخ البرلمان الأردني، وهذا مرهونٌ بمدى قدرته على النجاح في تأدية وظيفتيه التشريعية والرقابية، والتفاعل تحت القبة وفقاً لصيغته الحزبية التي انتُخب على أساسها. ومن الجدير ذكره، أن المجلس الحالي سيخضع في الأسابيع القادمة لأول اختبارات الأداء، عند مناقشة خطاب الثقة الذي ستقدمه الحكومة، إلى جانب مناقشته مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2025، وستكشف لنا نتائج هذا الاختبار عن مدى قدرة الأحزاب السياسية على الاستجابة لمتطلبات التحديث السياسي، وهو ما يتم عبر تجويد العمل البرلماني ورفع سويّته، وهذا يتأتَّى من خلال تحويله لعمل جماعي يقوم على التحالفات والتوافقات بين النواب ضمن أُطر حزبية وتكتّلات برامجية، وذلك لتحقيق الانسجام السياسي والبرامجي فيما بينهم، لتوحيد مواقفهم وتعزيز قدرتهم على التأثير، ومناقشة القوانين والسياسات المختلفة بأسلوب منهجي، وهذا ما يؤدي بالمجمل إلى النهوض بدور المؤسسة البرلمانية، بما يرتقي لمستوى الطموح الوطني العام.