د. أيوب أبودية يكتب :عندما تضيق بك الدنيا !!

عندما تضيق بك الدنيا !!
د. أيوب أبودية
 
في بعض الأحيان، يجد الإنسان نفسه محاصرًا بين ضغوط الحياة ومسؤولياتها، فيشعر كأن الدنيا تضيق به من كل حدب وصوب، فتتحول مشاكله وهمومه إلى جبل يعجز عن تجاوزه. ولكن، حين نشعر بأننا غارقون في بحر من الضيق والحزن والكآبة، قد يكون الحل الأقرب إلينا والأبسط لنا هو تمعن النظر إلى السماء. ففيها أفق واسع، يمتد بلا حدود، يشبه في اتساعه ما نحلم به من طموحات وأحلام. إن السماء بكل ما تحمله من أسرار وجمال تعكس لنا فكرة عميقة، وهي أننا مجرد نقطة صغيرة في هذا الكون الشاسع، فلا تلبث همومنا أن تتشتت وتتضاءل.
 
فعندما نشعر بأن الأرض تضيق من حولنا، ما علينا سوى أن نرفع أعيننا لنرى النجوم تتلألأ فوقنا، لتذكرنا بحجمنا الصغير أمام اتساع هذا الكون العملاق، ومع ذلك نشعر بأننا جزء من هذا الجمال والاتساع. فالنجوم، بأضوائها البراقة، تسبح في سماء الليل وتبعث في النفس السكينة. إن رؤية النجوم في السماء ليلاً تمنحنا شعورًا بالراحة وبقرابة روحية، ربما مادية وتاريخية، وتجعلنا ننسى مشاكلنا للحظات، بل وتذكرنا أن الكون أكبر بكثير من همومنا وأوجاعنا واكتئابنا، وأن كل شيء زائل بائد إلا هذا الجمال الطبيعي السرمدي الذي يعيد لنا الأمل ويهدئ أرواحن ويضيف السكينة في قلوبناا.
 
إن تأمل الكون اللامتناهي يعطينا منظورا جديدا للحياة. ففي مقابل الكون الواسع الذي لا يكف عن الاندياح والتوسع، تبهت همومنا وتضمحل صعابنا. إذ نجد في المساحات الشاسعة بين النجوم، وكأنها تفتح لنا آفاقًا جديدة وتدعونا إلى التساؤل عن ماهية وجودنا وغايته؛ فكل نجم هو نظام شمسي له كواكب وأقمار، وفي الوقت نفسه النجم هو جزء من مجرة فيها بلايين النجوم، وهناك بلايين المجرات في الكون. وما نحن سوى نقطة بين هذا الكم الهائل من النجوم والأجرام السماوية والمجرات، وهو ما يضع الأمور في منظورها الصحيح ويخفف عنا ثقل همومنا وآلامنا.
 
ومن غرائب هذا العالم أن النجوم التي نراها ليست فقط أجساما مضيئة في السماء، بل هي شاهدة على قصص وحكايات منسية، وزمن لا نراه بأعيننا. فبعض النجوم التي تضيء السماء قد تكون قد انتهت حياتها منذ ملايين السنين، ولكن ضوءها لا يزال يقطع المسافة ليصل إلينا، لأنها بعيدة جدا. وحين نفكر في هذه الحقيقة الكونية، ندرك كم أن الحياة الانسانية في نظر الكون قصيرة، وكم أن الوقت والزمن والمكان مفاهيم نسبية. ففي لحظة تأمل كهذه، نستشعر أهمية اللحظة الحالية وجمالها، ونقدّر أن همومنا ليست سوى جزء عابر من رحلتنا الزمكانية.
 
أمّا خلال النهار، وحين تصفو السماء وتبدو بصفاء أزرق عميق، فإن هذا اللون الأزرق يبعث في النفس شعوراً بالراحة والطمأنينة كما يبعث لون البحر طمأنينة وراحة؛ فزرقة السماء في النهار لا تقل سحرًا عن جمال النجوم في عتمة الليل؛ فهي ترمز للنقاء والسلام، وتبث في النفس شعورًا بالتوازن والصفاء والطمأنينة. وفي كل مرة ننظر فيها إلى السماء الزرقاء، نتذكر أن الطبيعة تملك القوة على مداواة جراحنا وتهدئة أنفسنا. وكأن هذا اللون الأزرق، بخفته وامتداده، يهمس في آذاننا بأن كل شيء سيمر على خير، وأن هناك أملٌ جديد في كل صباح يشرق.
 
إن علاقتنا بالسماء ليست مجرد علاقة بصرية لحظية، بل هي علاقة روحية وعاطفية ومادية تاريخية، ربما تعود إلى الغبار الكوني الأزلي، فهي تمنحنا شعورًا بالأمان والانتماء والقرابة، وتذكرنا بأن هناك قوى أكبر منا تعمل في هذا الكون. فعندما نرفع رؤوسنا نحو السماء، نتذكر أن هناك حكمة أو غاية في كل شيء يحدث لنا، ربما لا ندركها اليوم ولكن إدراك كنهها وسبر أغوارها لن يكون بعيدا مع تطور العلم المتسارع. وينبغي التعلم من أن الحياة مليئة بالدروس والتجارب التي تجعلنا أقوى وأكثر مرونة بمرور الوقت، لذلك نجد أن اكتساب الخبرات يقلل من مخاطر التوجس من المستقبل والقلق من الحاضر.
 
ولا يمكن أن ننكر أن تأمل النجوم والسماء يساعد على تهدئة النفس، فهو يعد نوعاً من التأمل الذي يدعونا للتفكر في الحياة ومعناها وغايتها؛ إذ يعتبر علماء النفس أن التأمل في النجوم أو الطبيعة بشكل عام يعمل على تهدئة العقل، وتقليل مستويات التوتر، ويزيد من قدرة الإنسان على الصبر والتأمل في الصعوبات بتفاؤل وإيجابية. إن النظر إلى السماء الواسعة يجعلنا نتنفس بعمق، ونتحرر من بعض القيود التي تفرضها علينا حياتنا اليومية القاسية، وكأننا في حضرة جمال غير محدود الأفق والابداع.
 
وفي الختام، نقول إنه عندما تضيق بنا الدنيا، وتتكالب علينا ضغوط الحياة، وتتعاظم متطلبات الناس من حولنا، فإن النظر إلى السماء، سواء كانت مضيئة بالنجوم في الليل أو زرقاء صافية في النهار أو وردية عند الشروق والغروب، يفتح أمامنا نافذة من السكينة والأمل. فالسماء تذكرنا بأننا جزء من هذا الكون الكبير، وأن همومنا، رغم ثقلها، ليست سوى موجات صغيرة وناعمة في محيط ضخم متلاطم الأمواج. فالسماء تملك قدرة عجيبة على مداواة القلوب، وتهدئة النفوس، ومداعبة الأرواح، وتذكرنا أن جمال الكون لا يزال ينتظرنا لنكتشفه لما يستحق.