كيف نفسّر ازدحام عيادات بعض الأطباء؟

د. أيوب أبودية

يسود الاعتقاد في مجتمعاتنا بأن ازدحام عيادة الطبيب يشير إلى مدى شهرة الطبيب ورفعة كفاءته المهنية، حيث يرى البعض أن تزايد أعداد المرضى الذين ينتظرون دورهم يعكس جودة الخدمات المقدمة ورضا المتعاملين معه. لكن في الحقيقة، هذا الازدحام قد يكون في أحيان كثيرة دليلًا على ضعف التنظيم وسوء إدارة الوقت، وليس بالضرورة علامة على الكفاءة المهنية للطبيب، بل ربما العكس.

الكفاءة في العمل الطبي تتطلب توافر مجموعة من العوامل، منها المعرفة والحكمة والخبرة السريرية والأخلاق (أنظر كتاب "أخلاق الطبيب" للرازي)، إلى جانب القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة بسرعة وفاعلية. كما تتطلب الكفاءة المهنية أن يتمكن الطبيب من تقديم خدمة طبية عالية الجودة مع احترام وقت المريض وتقديم تجربة مريحة له. ولكن للأسف، نجد أن بعض الأطباء يفتقدون إلى إدارة الوقت في العيادة بشكل منظم ويعتمدون على الحشود المنتظرة كنوع من الدعاية لهم. وبالتالي، يصبح الازدحام حالة تتكرر بشكل غير مبرر، مما يضعف من جودة الرعاية ويقلل الوقت المخصص للمريض والتركيز الضروري للاستماع إليه، وبالتالي يؤثر على معالجة المرضى.

ويركّز كتاب أخلاق الطبيب على الجانب النفساني من المعالجة السريرية، حيث يوصي الرازي بتوثيق العلاقة بين الطبيب والمريض، بحيث لا يُخفي المريض سراً عن الطبيب، وإلّا استعصت على الطبيب المعالجة. ويفسّر ذلك بأنّ كتم المريض حقيقة ألمه وموضعه والأعراض التي تصيبه من شأنها أن تحجب الأعراض الحقيقية للمرض، وبالتالي فربّما يسيء الطبيب كشف العلّة وتشخيص المرض، فيعطي مريضه دواء مضرّاً بدلاً من أن يكونَ مفيداً. وبناء عليه، فإن ضيق الوقت المخصص للمريض يُفشل المسعى الأخير.

هناك أسباب متعددة تجعل عيادات بعض الأطباء مزدحمة باستمرار، بعضها يتعلق بكثرة المرضى، وبعضها الآخر يعكس ضعفًا في تنظيم الوقت، فالطبيب الذي لا يحترم وقت المريض كيف يمكنه أن يهتم بعلاجه؟

إن عدم تنظيم المواعيد بشكل دقيق هو السبب الرئيسي في ازدحام العيادات. فإذا لم يتم تحديد أوقات دقيقة لكل مريض، وترك فسحة زمنية كافية بين مواعيد المرضى، والتزام الطبيب بوقت دوامه، سينجم عن ذلك تكدس المرضى في صالات الانتظار. في ربما بعض الأطباء يتعمدون تحديد مواعيد متعددة في وقت قصير لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المرضى وازدحامهم، بحيث يؤدي إلى ازدحام غير ضروري، وإساءة معاملة المريض وعدم احترامه.

وبعض الأطباء يرون أن ازدحام عياداتهم يعكس نجاحهم وشهرتهم، حيث يعتمدون على الترويج لأنفسهم من خلال مشهد المرضى الذين ينتظرون في الخارج أو يزدحمون على المقاعد في صالة الانتظار، دون أن يدركوا أن هذا قد يترك انطباعًا سلبيًا عنهم في نظر البعض. ففي بعض الأحيان، يتم تقليص الوقت المخصص لكل مريض بهدف استقبال أكبر عدد من الحالات. هذا الأسلوب لا يؤثر فقط على جودة الخدمة، بل يسهم أيضًا في إطالة فترات الانتظار، ويزيد من احتمالية تراكم المرضى في العيادة واستفحال مرضهم. كما يؤدي عدم التنظيم الجيد وإهمال إدارة المواعيد إلى إرهاق الطبيب وزيادة احتمالات وقوع الأخطاء.

فالطبيب الكفء هو مَن يتمكن من تقديم خدماته بهدوء ودقة وتنظيم للوقت، مع مراعاة احترام وقت المرضى وتلبية احتياجاتهم الصحية بفعالية. إن الاعتماد على الازدحام كدليل على الكفاءة يعد تصرفًا غير احترافي، إنما يُظهر أن الطبيب لا يلتزم بأفضل الممارسات الإدارية، ما يضر بسمعته على المدى البعيد. فإذا كان الازدحام لا يعكس بالضرورة كفاءة الطبيب، فما الذي يمكن للمريض أن يستند إليه في تقييم كفاءة الطبيب؟

الطبيب الكفء الذي يركن إليه هو من يحرص على تنظيم مواعيده، ويعمل على تقليل فترة الانتظار للمريض، والتنظيم الجيد للعيادة ونظافتها، وويهتم بكفاءة السكرتيرة؛ كل ذلك يعكس اهتمام الطبيب وكفاءته بتوفير تجربة مريحة للمرضى وتخصيص الوقت الكافي له. وأتعجب أحيانا كيف تسمح نقابات الأطباء لسكرتيرات الأطباء ألا يكن مؤهلات، أو حتى ممرضات مؤهلات، فإنهن يتعاملن مع مرضى وقد ينقلن العدوى إلى آخرين بجهلهن بالعلوم الطبية.

والطبيب الكفء الذي يركن إليه هو ذلك الذي يعتمد جودة التشخيص والعلاج كأساس للكفاءة. فيجب أن يهتم الطبيب بتقديم استشارات مدروسة ومخصصة لكل حالة على حدة، بدلًا من محاولة إنجاز الحالات بسرعة. كذلك يراعي أحوال المريض المادية والنفسية. والطبيب الناجح يكون متفاعلًا مع مرضاه، يستمع إلى أسئلتهم ومخاوفهم، ويجيب عنها بوضوح وتفصيل، ويتأكد أن المعلومة وصلت بوضوع وخاصة في شرح العلاج، فليس الناس كلهم على سوية عالية من الذكاء.

إذن، يمكن للطبيب أن يتبنى إجراءات تنظيمية بسيطة وفعالة لتحسين جودة الخدمة وتقليل الازدحام. من هذه الإجراءات، تخصيص مواعيد دقيقة لكل مريض، وتحديد أوقات للاستشارات الطارئة، والحرص على تقليل فترة الانتظار. كما يمكن للطبيب استخدام الأنظمة الإلكترونية لإدارة المواعيد وتحديث المرضى بتوقيت دخولهم، وهو ما يسهم في تحسين الكفاءة وتوفير تجربة إيجابية للمرضى. وإذا تأخر حضور الطبيب لطارىء ما يمكن للسكرتيرة إبلاغ المرضى بتعديل المواعيد.

خلاصة القول إن الازدحام في عيادة الطبيب ليس دليلًا على الكفاءة أو الشهرة، بل قد يكون في أحيان كثيرة مؤشرًا على ضعف التنظيم وإهمال إدارة الوقت. فالكفاءة المهنية الحقيقية تظهر في جودة الخدمة والالتزام بالمواعيد معا، وبالتالي تقديم رعاية تليق باحتياجات المرضى واحترام وقت المريض. إن الطبيب الذي يهتم بتنظيم عيادته وتقديم خدمة طبية عالية الجودة هو من يحقق نجاحًا حقيقيًا، بعيدًا عن مظاهر الازدحام والأساليب الترويجية القائمة على كثرة أعداد المرضى في صالة الانتظار.