الخريطة الإدراكية ...
حتى تعرف الصديق من العدو ، والصادق من الكاذب. وحتى تدرك الفرق بين البشر لا بد أن تعرف خريطتهم الإدراكية.
محاولة في كشف الحقيقة والوقوف عليها بعيدا عن أدوات التجميل المختلفة .
الموضوع متعدد الجوانب والآثار ولكنه على طريق الفهم .
نقف مع الدكتور عبدالوهاب المسيري وقفة جديدة ، والحقيقة أن الخريطة الإدراكية وتركيز المسيري عليها هو الإساس الذي اعتمد عليه المسيري في الوصول إلى نموذجه التحليلي للعقل الإنساني .
نعم الإنسان هو ابن بيئته واسرته وتعليمه ومجتمعه ودينه ، هذه حقيقة اساسية في فهم الإنسان ونشأته ومآله وتصرفاته وردود أفعاله ، وعلى ذلك فلا بد من فهم هذه قبل تحديد الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع الإنسان ، سواء كان فردا في مجتمع أو موظفا أو طالبا أو حتى لبنة في مجتمع ما ، وبناء على هذا التحليل تتضح تلك العقلية نتعامل معها .
وحتى ندرك ما نتكلم عنه ، عليك أن تضع نفسك في ذلك المجتمع الجاهلي الذي تحكمه جملة من الأعراف والعادات والتقاليد ، ثم جاء رجل يقول لك قل لا اله إلا الله تفلح ، وهنا تتلقى هذا النص بناء على خريطتك الإدراكية ، فتعلم تماما بأن هذه ليست كلمة مجردة ، هي نقلة من واقع إلى واقع مختلف تماما ، فهذه الأصنام التي تنتشر حول الكعبة ، هي في الحقيقة خريطة ادركية ، تقوم عليها عادات وتقاليد وتجارة وعلاقات انسانية وعلاقات عشائرية وعلاقات مكانية وعلاقات زمانية .
وهذا القول ليس قولا فقط ، بل هو ينسف كل تلك الخريطة ، وإنشاء شبكة علاقات كاملة جديدة مع كل ذلك مكانها ، فلن تصبح العلاقات كما هي ، ولا التجارة القائمة على وجود هذه الإصنام كما هي ، بل حتى العلاقات بين الاسرة الواحدة لن تعود كما هي .
ولذلك وقف المجتع منقسما تماما امام هذه المقولة ولم يتقبلها إلا اولئك الذين امنوا بها .
وهذا تماما ما يحدث عندما تتلكم مع شخص من خلفية عربية أو خلفية أوروبية أو أمريكية أو صهيونية ، وحتى عندما تتكلم مع مسيحي عربي أو مسيحي غربي ، وحتى عندما تتكلم مع مسيحي متصيهن أو غير متصهين ، وحتى بين مسيحي كاثوليكي أو بروتستنتي أو مسلم سني أو شيعي أو يهودي ، وحتى يهودي متصهين ويهودي غير متصهين .
هناك خريطة مختلفة لكل واحد منهم ، بل حتى في المجتمع الواحد تتحكم هذه الخريطة في طريقة وألية ردود الأفعال ، فكل خلفية مهما صغرت تؤثر في طبيعة التعامل وردود الأفعال ، حتى في العشيرة الواحدة في المكان الواحد تختلف ردة الفعل والخريطة لهذا الإنسان حسب مكانه في هذه العشيرة ، وبالتالي مكانه في هذا البلد صغر أو كبر ، وبالتالي موقفه كعربي أو مسلم او اوروبي او امريكي او صيني او غيره على هذه الخريطة .
وهنا مربط الفرس كما يقولون ، لقد وضعتنا خريطتنا الإدراكية في عالمنا العربي في موضع لا نحسد عليه ، فنحن من جهة مسلمون ، ومن جهة عرب ، ومن جهة أخرى وطنيون ، ومن جهة أخرى نلتزم بالقضايا العربية والإسلامية وحتى العالمية ، بعكس الكثير من الحضارات والشعوب التي لا تنخرط بناء على خريطتها الإدراكية تجاه هذه القضايا .
وتعاملنا مع اليهود قائم على أساس هذا يهودي متصهين أو مسيحي متصهين وليس عداء مطلقا ، وفي نفس البوتقة تحدد هذه الخريطة جملة الولاء والإنتماء تجاه الأخر ، وتتحكم بردود الأفعال ومداها ، وهذا ما يعطي لأمة ما أو مجتمع ما قوة وتميز وحضارة ويسلبها من مجتمع أخر .
ولنعد إلى مجتمع الصحابة الذي نعرفه جميعا ونعرف صفاته وردود افعاله وقصصه وبطولاته ، كيف تحكمت الخريطة الإدراكية التي بناها الرسول صلوت ربي عليه في نشأة أمة وبناء حضارة ، وانطلاقها من العدم أو قبلية بسيطة جدا لتكون علامة فارقة بين الأمم ، وتكون هذه العصبة هي النواة التي اطلقت حضارة من هذا الإنسان القبلي البسيط ، إستمرت بزخمها وتأثيرها حتى يومنا هذا .
عندما تبحث في حياة الصحابة ستجد ذلك التغيير الهائل الذي حدث في الشخصية ، فهو هنا فرد في جماعة المسلمين وليس في قبيلة أو بلدة ، وستجد عابدا وجنديا وقائدا وصانعا ومزارعا وتاجرا ومتبرعا بكل ثروته ، واخر بكل جهده ، وثالث بكل فكره وعلمه ، ورابع وخامس ، لقد انصهر الجميع في هدف واحد هو الدين ، ونشر الدين ونشر الخير ونشر العدل ونصرة المظلوم واحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وستجد ربعي بن عامر لا تغريه النمارق ولا الزخارف عن وحدة الهدف ونصرة الحق وإتباعه ، والموت في سبيله .
طبعا حتى لا يذهب ذهنك بعيدا أنا أقرّ بأن هذا هو الدين ، ولكن لتدرك الفرق بين من يملك خريطة ادركية سليمة وخريطة ادراكية ناقصة ، هو الفرق الذي أتكلم عنه بيننا وبين جيل الصحابة ، او جيل الحضارة او ذلك الجيل الذي يصنع امة ، ذلك الجيل المنضبط تماما بسلوكه وفعله وانفعاله ، ويسعى نحو هدف اساسي واحد ، تم وضعه لهذه المجموعة من البشر ، سواء كان هذا الهدف يسعى إلى الخير كما كنا نحن في المجمل طبعا ، أو الشر كما في حالة الغرب وأمريكا اليوم ، وقبلها قصص يحفل بها التاريخ .
وحتى يتضح الفرق الذي نتكلم عنه أيضا، وأهمية هذه الخريطة في قيام وتطور وسيطرة وقوة هذه الأمم او المجموعات البشرية ، خذ الفرق اليوم بين الشرق والغرب .
يملك الشرق كتل بشرية ضخمة وموارد متعددة وقدرات وتاريخ وخيرات وجغرافيا وطقس ولكنه اضاع الخريطة ، وهنا يتضح الفرق بشكل صارخ بيننا وبين الغرب ، نعم نحن نملك دينا ، ولكننا اضعنا الخريطة ، الغرب لا يملك دينا ولكنه يملك الخريطة ، مع الاقرار بأن الدين موجود في الأفراد في الغرب ولكنه بشكل او بأخر ليس له علاقة مباشرة في صناعة هذا الإنسان وردود افعاله وخريطته ، هذا الإنسان الذي نتعامل معه اليوم مختلف ، يأخذ من القوة والعلم والحضارة ما يصنع بها مجده ، ولو على حساب قتل ونفي وسرقة الأخر .
وهذا لا ينفي دور التاريخ والدين والحروب والسلم في ايجاد هذا الإنسان الموجود اليوم في الغرب ، فالاحداث التاريخية لا تذهب هباء ، ولكنها تشكل مصدرا مهما للخريطة الادراكية ونضجها وتفاعلها مع الاحداث المحيطة بها ، ووصولها الى تلك المرحلة التي وصل إليها الغرب .
بخلاف الحالة التي نعيشها نحن اليوم ، فنحن ننطلق من الدين ، ونفقد الخريطة والفاعلية والتفكير المحلي والإستراتيجي عندما نغيب الدين ونحصر انفسنا في بيئات ضيقة جغرافيا .
فالغرب يأخذ قوته من تلك المنظومة التي تحكمه ، والتي تحدد سبل الاتحاد بين افراده وسبل صهر الافراد والطاقات والأفكار والمبدعين والمنتجين في منظومته وجعلهم جنودا في سبيل تحقيق اهدافه ، مع الحفاظ على استقلالية جزئية وانخراط كامل في الهدف الرئيسي ، وقوته ليس في العدد ولا الموارد ولا الجغرافيا ولا الدين ولكنها في هذه الخريطة ، التي تستطيع أن تشكل الفرد ورد الفعل وتصهر الأفراد الجدد وتوظف الموارد وتصنع منها ما نراه اليوم .
فالشرق يملك أضعاف ما يملكه الغرب ، ولكنه لا يملك هذه الخريطة .
وهذا هو الذي اعطى القوة للغرب وحرم منها الشرق .
والموضوع يطول ، ولكن أظن أن الموضوع هنا بدأ يتضح ، نعم يحتاج إلى وقفات توضيحية أخرى .
شكرا الدكتور عبد الوهاب المسيري ، فأنا انطلق من قواعدك لاحاول أن افهم ما هو أمامي، ونعم العلم لا يموت بموت صاحبه .
إبراهيم أبو حويله ...