قاقيش يكتب: نُخب المشهد السياسي وطموحات الأردنيين ..
الدكتور رائد قاقيش
في ظل التحديات التي تزداد تعقيدًا يوماً بعد يوم في الأردن، يبرز على الساحة مجموعة من النخب السياسية والاقتصادية التي تدعي امتلاك الحلول الناجعة لجميع المشكلات، وتقديم نفسها كحراس المستقبل، وكأنها تمتلك مفاتيح التغيير والإصلاح. هذه النخب، التي تتأرجح بين تاريخٍ مشبوه وحاضرٍ غامض، تطرح نفسها كبديل وحيد لإنقاذ البلاد.
ولكن، هل تعكس هذه الشخصيات فعلاً طموحات الشعب وتطلعاته؟ أم أنها مجرد واجهات تخدم مصالحها الخاصة، وتسعى للحفاظ على نفوذها بأي ثمن؟
معظم هذه النخب تتألف من أفراد سبق لهم أن تسلقوا سلالم السلطة، وحصلوا على مناصب مؤثرة، مستفيدين من النفوذ العائلي، القبلي، أو الحزبي. هؤلاء الأشخاص، الذين يشغلون منابر الإعلام والسياسة، لا يتوانون عن تقديم رؤى تبدو براقة لكنها في حقيقتها تعبر عن افتقار شديد للإبداع أو الجدية في معالجة مشكلات البلاد الحقيقية. السؤال المحوري هنا: كيف لهذه النخب، التي فشلت مرارًا وتكرارًا في تحقيق تقدم يُذكر عندما كانت على رأس السلطة، أن تزعم اليوم قدرتها على تقديم حلول؟
إن جوهر المشكلة يكمن في أن هذه النخب ما زالت أسيرةً لثقافة المصالح الضيقة والأنانية السياسية. فكل فئة منهم تسعى لتعزيز موقعها على حساب المصلحة الوطنية الشاملة، حيث نرى بعض القبائل تتحول إلى كتل سياسية تسعى لفرض أجنداتها، بينما الأحزاب تغرق في تجاذبات داخلية عقيمة، والزعامات الدينية تُدير صراعاتها باسم الدين ولكن لأهداف سياسية بحتة. هذا التشرذم لا يعكس إلا تخلفاً في الفكر السياسي، حيث يُنظر إلى الوطن كغنيمة وليس ككيان يجب الدفاع عنه وتنميته.
الغريب في الأمر أن هذه النخب، التي غالباً ما تتحدث عن الإصلاح والتغيير، كانت جزءاً من الأنظمة التي تدعي فشلها اليوم. كيف يمكن لنخبة شغلت مناصب عليا في الحكومات السابقة أن تتنصل من مسؤوليتها وتلقي باللائمة على الحكومات المتعاقبة، بينما هي ذاتها كانت على رأس صنع القرار؟ وهنا، يجب أن نسأل: أين كان هؤلاء عندما كانوا في مواقع السلطة؟ ولماذا لم نرَ أي تغيير حقيقي وقتها؟
بل والأدهى من ذلك، أن العديد من هذه الشخصيات، رغم تبوئها لمناصب عليا في الدولة، لا تزال غير قادرة على استيعاب التحولات المجتمعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. فقد أضحى الشارع الأردني، خاصةً الشباب، على قناعة بأن هذه النخب لا تمثله ولا تنطق باسمه. فبينما يعاني المواطنون من أزمات الفقر والبطالة والضغوط الاجتماعية، تنشغل النخب بالمصالح الشخصية، وتظل طروحاتهم الإصلاحية مجرد شعارات جوفاء.
إن عمق الأزمة لا يقتصر على انفصال النخب عن الواقع الاجتماعي فقط، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى تجذر ثقافة النفوذ والسيطرة على مفاصل الاقتصاد والسياسة. النخب الاقتصادية، التي تُعد من أعمدة الاقتصاد الوطني، لم تترك فرصة إلا واستغلتها لتعزيز نفوذها المالي على حساب تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطن. فكيف لنا أن نثق فيمن يروج لإصلاح اقتصادي، وهو ذاته المستفيد الأول من بقاء الوضع على ما هو عليه؟
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الديوان الملكي، كمرجعية وطنية عليا، يلعب دورًا حاسمًا في حماية استقرار البلاد وضمان تحقيق مستقبل أفضل يتجاوز المصالح الفردية الضيقة. الديوان الملكي هو الضامن الوحيد للاستقرار الوطني، وأي محاولة للتغيير السياسي يجب أن تأخذ هذا الدور بعين الاعتبار لضمان نجاح أي عملية إصلاح.
بالنظر إلى المستقبل، فإن المطلوب اليوم هو نخبة سياسية واقتصادية جديدة، تمتلك الوعي الكامل بالتحديات المعاصرة، وتؤمن بأن الحل لا يكمن في تعزيز المصالح الذاتية، بل في تقديم رؤية شاملة تأخذ في اعتبارها حاجة الأردن لتجديد نفسه سياسياً واقتصادياً. المطلوب هو نخبة تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتتخذ من الشفافية والمسؤولية طريقاً لتصحيح المسار.
وتعزيزاً لهذا التوجه، لا بد من تبني نهج جديد في التنافس السياسي، يقوم على مفهوم التنافس التعاوني، حيث يكون الهدف الرئيسي تقديم حلول حقيقية تخدم الوطن بشكل جماعي، وليس مجرد شعارات تُسخر لخدمة أطراف معينة. هذا النهج يجب أن يكون حجر الزاوية لأي عملية إصلاح حقيقية، إذا كنا نطمح حقًا لرؤية تقدم فعلي.
إضافةً إلى ذلك، لا يمكن تجاهل تأثير العلاقات الإقليمية والدولية في صياغة السياسات الوطنية. النخب يجب أن تكون واعية لأبعاد هذه التحديات، وتعمل على تكييف سياساتها بما يحمي المصالح الوطنية، مع الحفاظ على استقلالية القرار السياسي. الأردن، الذي كان دائماً لاعباً إقليمياً مهماً، يواجه اليوم أزمات داخلية نتيجة التحديات الاقتصادية والاحتقان الشعبي. العملية الديمقراطية والحريات العامة تعاني من تعثرات ملحوظة، ما يدفع للتساؤل حول قدرة النظام السياسي على مواجهة هذه التحديات.
في خضم هذا الواقع المرير، لا بد من وقفة صادقة تتجاوز التجميل الإعلامي والشعارات الفارغة. فالمسؤولية الحقيقية تتطلب مراجعة شاملة وتقييم دقيق لأداء النخب السابقة والحالية. الشعب الأردني، الذي عانى طويلاً من تجاهل هذه النخب لهمومه وأحلامه، يستحق نخبة جديدة تكون قادرة على مواجهة التحديات بروح المسؤولية والتفاني.
وفي الختام، نتمنى أن تتطلع الحكومات القادمة بشغف وجدية إلى هذه التحديات، وأن تسعى جاهدةً لإحداث تغيير حقيقي وملموس. فالأردن لا يحتاج فقط إلى حلول مؤقتة أو شعارات مرحلية، بل إلى نخبة جديدة تتبنى رؤية مستقبلية جريئة وواعية، تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.
*نائب سابق واكاديمي
مستشار ومدرب في الاتصالات والتواصل الإداري الرشيق
في ظل التحديات التي تزداد تعقيدًا يوماً بعد يوم في الأردن، يبرز على الساحة مجموعة من النخب السياسية والاقتصادية التي تدعي امتلاك الحلول الناجعة لجميع المشكلات، وتقديم نفسها كحراس المستقبل، وكأنها تمتلك مفاتيح التغيير والإصلاح. هذه النخب، التي تتأرجح بين تاريخٍ مشبوه وحاضرٍ غامض، تطرح نفسها كبديل وحيد لإنقاذ البلاد.
ولكن، هل تعكس هذه الشخصيات فعلاً طموحات الشعب وتطلعاته؟ أم أنها مجرد واجهات تخدم مصالحها الخاصة، وتسعى للحفاظ على نفوذها بأي ثمن؟
معظم هذه النخب تتألف من أفراد سبق لهم أن تسلقوا سلالم السلطة، وحصلوا على مناصب مؤثرة، مستفيدين من النفوذ العائلي، القبلي، أو الحزبي. هؤلاء الأشخاص، الذين يشغلون منابر الإعلام والسياسة، لا يتوانون عن تقديم رؤى تبدو براقة لكنها في حقيقتها تعبر عن افتقار شديد للإبداع أو الجدية في معالجة مشكلات البلاد الحقيقية. السؤال المحوري هنا: كيف لهذه النخب، التي فشلت مرارًا وتكرارًا في تحقيق تقدم يُذكر عندما كانت على رأس السلطة، أن تزعم اليوم قدرتها على تقديم حلول؟
إن جوهر المشكلة يكمن في أن هذه النخب ما زالت أسيرةً لثقافة المصالح الضيقة والأنانية السياسية. فكل فئة منهم تسعى لتعزيز موقعها على حساب المصلحة الوطنية الشاملة، حيث نرى بعض القبائل تتحول إلى كتل سياسية تسعى لفرض أجنداتها، بينما الأحزاب تغرق في تجاذبات داخلية عقيمة، والزعامات الدينية تُدير صراعاتها باسم الدين ولكن لأهداف سياسية بحتة. هذا التشرذم لا يعكس إلا تخلفاً في الفكر السياسي، حيث يُنظر إلى الوطن كغنيمة وليس ككيان يجب الدفاع عنه وتنميته.
الغريب في الأمر أن هذه النخب، التي غالباً ما تتحدث عن الإصلاح والتغيير، كانت جزءاً من الأنظمة التي تدعي فشلها اليوم. كيف يمكن لنخبة شغلت مناصب عليا في الحكومات السابقة أن تتنصل من مسؤوليتها وتلقي باللائمة على الحكومات المتعاقبة، بينما هي ذاتها كانت على رأس صنع القرار؟ وهنا، يجب أن نسأل: أين كان هؤلاء عندما كانوا في مواقع السلطة؟ ولماذا لم نرَ أي تغيير حقيقي وقتها؟
بل والأدهى من ذلك، أن العديد من هذه الشخصيات، رغم تبوئها لمناصب عليا في الدولة، لا تزال غير قادرة على استيعاب التحولات المجتمعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. فقد أضحى الشارع الأردني، خاصةً الشباب، على قناعة بأن هذه النخب لا تمثله ولا تنطق باسمه. فبينما يعاني المواطنون من أزمات الفقر والبطالة والضغوط الاجتماعية، تنشغل النخب بالمصالح الشخصية، وتظل طروحاتهم الإصلاحية مجرد شعارات جوفاء.
إن عمق الأزمة لا يقتصر على انفصال النخب عن الواقع الاجتماعي فقط، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى تجذر ثقافة النفوذ والسيطرة على مفاصل الاقتصاد والسياسة. النخب الاقتصادية، التي تُعد من أعمدة الاقتصاد الوطني، لم تترك فرصة إلا واستغلتها لتعزيز نفوذها المالي على حساب تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطن. فكيف لنا أن نثق فيمن يروج لإصلاح اقتصادي، وهو ذاته المستفيد الأول من بقاء الوضع على ما هو عليه؟
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الديوان الملكي، كمرجعية وطنية عليا، يلعب دورًا حاسمًا في حماية استقرار البلاد وضمان تحقيق مستقبل أفضل يتجاوز المصالح الفردية الضيقة. الديوان الملكي هو الضامن الوحيد للاستقرار الوطني، وأي محاولة للتغيير السياسي يجب أن تأخذ هذا الدور بعين الاعتبار لضمان نجاح أي عملية إصلاح.
بالنظر إلى المستقبل، فإن المطلوب اليوم هو نخبة سياسية واقتصادية جديدة، تمتلك الوعي الكامل بالتحديات المعاصرة، وتؤمن بأن الحل لا يكمن في تعزيز المصالح الذاتية، بل في تقديم رؤية شاملة تأخذ في اعتبارها حاجة الأردن لتجديد نفسه سياسياً واقتصادياً. المطلوب هو نخبة تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتتخذ من الشفافية والمسؤولية طريقاً لتصحيح المسار.
وتعزيزاً لهذا التوجه، لا بد من تبني نهج جديد في التنافس السياسي، يقوم على مفهوم التنافس التعاوني، حيث يكون الهدف الرئيسي تقديم حلول حقيقية تخدم الوطن بشكل جماعي، وليس مجرد شعارات تُسخر لخدمة أطراف معينة. هذا النهج يجب أن يكون حجر الزاوية لأي عملية إصلاح حقيقية، إذا كنا نطمح حقًا لرؤية تقدم فعلي.
إضافةً إلى ذلك، لا يمكن تجاهل تأثير العلاقات الإقليمية والدولية في صياغة السياسات الوطنية. النخب يجب أن تكون واعية لأبعاد هذه التحديات، وتعمل على تكييف سياساتها بما يحمي المصالح الوطنية، مع الحفاظ على استقلالية القرار السياسي. الأردن، الذي كان دائماً لاعباً إقليمياً مهماً، يواجه اليوم أزمات داخلية نتيجة التحديات الاقتصادية والاحتقان الشعبي. العملية الديمقراطية والحريات العامة تعاني من تعثرات ملحوظة، ما يدفع للتساؤل حول قدرة النظام السياسي على مواجهة هذه التحديات.
في خضم هذا الواقع المرير، لا بد من وقفة صادقة تتجاوز التجميل الإعلامي والشعارات الفارغة. فالمسؤولية الحقيقية تتطلب مراجعة شاملة وتقييم دقيق لأداء النخب السابقة والحالية. الشعب الأردني، الذي عانى طويلاً من تجاهل هذه النخب لهمومه وأحلامه، يستحق نخبة جديدة تكون قادرة على مواجهة التحديات بروح المسؤولية والتفاني.
وفي الختام، نتمنى أن تتطلع الحكومات القادمة بشغف وجدية إلى هذه التحديات، وأن تسعى جاهدةً لإحداث تغيير حقيقي وملموس. فالأردن لا يحتاج فقط إلى حلول مؤقتة أو شعارات مرحلية، بل إلى نخبة جديدة تتبنى رؤية مستقبلية جريئة وواعية، تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.
*نائب سابق واكاديمي
مستشار ومدرب في الاتصالات والتواصل الإداري الرشيق