إنتخابات 2024 .. تعزيز نزاهة العملية السياسية وخروجها من تحت عباءة التدخلات الرسمية
رسائل الأردن إلى الإقليم والعالم.. نضوج سياسي وصعود قوى جديدة في مواجهة التحديات
إرادة الناخبين تتجاوز المال الأسود .. نحو برلمان أكثر نزاهة وتشريعاً
إعادة تشكيل الخارطة السياسية.. العشائر والإسلاميين واليمين يتصدرون البرلمان
الأنباط – خليل النظامي
مع نجاح مكونات سياسية وحزبية شبابية قوية في الانتخابات البرلمانية الأردنية، من المتوقع أن يتغير طابع المجلس البرلماني القادم ليصبح أكثر تركيزاً على القضايا السياسية والتشريعية بدلاً من الطابع الخدمي والاستعراضي الذي تميزت به بعض المجالس السابقة، فضلا عن المساهمة التي ستعمل على تعزيز دور القبة البرلمانية كـ منبر للنقاشات الجادة حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وستسعى نحو دفع التشريعات التي تخدم الصالح العام بدلاً من التركيز على الخدمات الفردية، وبـ التأكيد سيعكس هذا التحول نضجاً سياسياً متزايداً بين الأجيال الجديدة، ويمهد الطريق لبرلمان أكثر فاعلية في مواجهة التحديات الوطنية والإقليمية، خاصة أن هذه القوى الجديدة خاصة "الإسلامية" منها تتمتع برؤية سياسية واضحة وقدرة على تحليل القضايا الوطنية والدولية.
وفي التحليل؛ شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية نقطة تحول هامة في المشهد السياسي المحلي الأردني، إذ كشفت عن تحولات جوهرية في ميكانيز القوى السياسية والاجتماعية، وعن تراجع تدخلات بعض الجهات الرسمية في سير العملية الانتخابية وتوجيهها، فضلا عن صعود القوى الإسلامية، خاصة حزب جبهة العمل الإسلامي، اضافة الى إعادة دور العشائر الأردنية الى الواجهة كـ قوة مهيمنة في وقت فشلت فيه التيارات الليبرالية والعلمانية وبعض الأحزاب الهلامية في التأثير على توجهات الشارع المحافظ، الأمر الذي يشير الى أن الأردن يسير نحو عملية سياسية أكثر تعبيراً عن الهوية الثقافية والاجتماعية للشعب، ويعيش مرحلة من إعادة تشكيل تحالفاته الداخلية والخارجية من خلال تبني استراتيجية سياسية متعددة الأبعاد، في سياق مواجهة التحديات الإقليمية المتزايدة، خصوصاً التهديدات الإسرائيلية التي تلقي بظلالها على مستقبل الأردن.
و من أبرز الملامح الواضحة في الانتخابات تراجع الاتهامات المتعلقة بتدخل الجهات الرسمية والأمنية في سير وتوجه العملية الانتخابية، إذ كانت المعارضة الأردنية في الداخل والخارج على الدوام توجه اتهامات للنظام السياسي وبعض الأجهزة الأمنية بالتدخل في الانتخابات للتأثير على النتائج، إلا أن هذه الانتخابات كانت مختلفة بشكل كامل.
فصعود الإسلاميين ونجاح أحزاب المعارضة يؤكد درجة الشفافية والنزاهة التي اتسمت بها العملية الانتخابية، وهذا يشير ويؤكد بنفس الوقت الى رغبة النظام السياسي في تقديم نموذج ديمقراطي أكثر صدقاً وإعادة بناء الثقة بينه وبين المواطنين، ومنح الأطراف السياسية المتنوعة مساحة أكبر للعمل والتنافس بحرية في مناخ ديمقراطي صحي وسليم، الأمر الذي يكشف النتائج لإستراتيجية الإصلاحات السياسية المتمثلة بـ منظومة التحديث السياسي التي بدأتها المملكة بتوجيهات الملك عبدالله الثاني، خاصة في ظل الضغوط الداخلية والخارجية لتحسين صورة الديمقراطية في الأردن.
ومن النتائج اللافتة في الانتخابات البرلمانية؛ التأكيد على أن العشائر الأردنية ما زالت القوة الأكبر والأكثر نفوذاً في السياسة الأردنية، على الرغم من محاولات الليبراليين والعلمانيين وبعض الأحزاب الهلامية تحطيم بنية المكون العشائري إلا أنهم فشلوا في تحقيق تأثير ملموس على المكون العشائري الذي أثبت وأكد نفوذه السياسي في المشهد الأردني، في الوقت الذي فشلت فيه هذه التيارات وبعض الأحزاب المصطنعة التي إعتمدت على الإستعراض المفرغ في حشد دعم شعبي واسع، في مقارنة تعكس افتقارهم للتواصل الفعال مع قواعد شعبية تمتاز بتمسكها بالعادات والتقاليد والقيم المحافظة كما فعلت المكونات العشائرية.
وهذه النتيجة ليست مفاجئة في سياق التحليل للمشهد السياسي والاجتماعي الأردني، نظراً للتأثير الاجتماعي والسياسي الكبير الذي تتمتع به العشائر، والتي تمثل بنية اجتماعية قوية تمتد إلى كل جوانب الحياة، الأمر الذي يكشف قدرتها على توجيه الناخبين وتحديد مواقفهم السياسية، ما يجعلها طرفاً فاعلاً في تشكيل المشهد السياسي، ويعزز من نفوذها في البرلمان الأردني.
ومن على الضفة الاجتماعية ؛ فقد أوضحت النتائج وبشكل جلي أن السواد الأعظم من الناخبين الأردنيين يميلون نحو التوجهات الإسلامية المحافظة، ما يعكس تمسك المجتمع بالقيم الدينية والاجتماعية التقليدية (محافظ) ويلتقي ويتفق مع أيدلوجية المكون العشائري، وهذا ما أكدته النتائج التي حصلت عليها التيارات الإسلامية، وفي مقدمتها حزب جبهة العمل الإسلامي الذي حقق نجاحاً ملحوظاً يؤكد أن الاسلاميين لا يزالون يتمتعون بشعبية كبيرة، ما يعزز موقعهم كأحد أهم الفاعلين السياسيين في المملكة.
ومن المفاجآت الإيجابية التي أفرزتها الانتخابات ؛ تراجع تأثير المال الأسود الذي استخدم على نطاق ضيق، الذي لطالما كان ظاهرة سيئة في إنتخابات سابقة ويُستخدم لشراء الأصوات والتأثير على نتائج الانتخابات، ما يعكس تطوراً إيجابياً في وعي الناخبين، ويشير إلى أن الناخبين الاردنيين أصبحوا أكثر إدراكاً لأهمية اختيار ممثلين حقيقيين يعبرون عن مصالحهم بدلاً من الوقوع تحت تأثير المال، وقدرة أكبر على التفريق بين الوعود الانتخابية الحقيقية والتلاعب المالي، وبالتالي تعزز هذه الخطوة من نزاهة العملية الانتخابية وتؤكد أن البرلمان أصبح يمثل بشكل كبير إرادة الاردنيين بشكل أفضل مما كان عليه في الماضي.
الى ذلك، وفي سياق المشهد السياسي الأردني لا يمكن أن نغفل عن تأثير القضية الفلسطينية على المسرح السياسي الداخلي، إذ كشفت النتائج التأثير الكبير للقضية الفلسطينية والمقاومة والعدوان على غزة والضغة على الشارع السياسي والاجتماعي في الأردن، وهذا التأثير ظهر جلياً في دعم الناخبين للأحزاب ذات التوجه الإسلامي، مثل حزب جبهة العمل الإسلامي الذي يستمد شعبيته من مواقفه القوية في دعم القضية الفلسطينية، علاوة على ان المجتمع الأردني يرى في دعم المقاومة الفلسطينية جزءاً من التزامه الوطني والقومي، وهذا عمل على تعزيز فرص الأحزاب الإسلامية في تحقيق نتائج إيجابية في الانتخابات.
إلى جانب البعد الداخلي، يمكن تفسير التمدد النسبي للإخوان المسلمين في مجلس النواب كـ جزء من استراتيجية سياسية خارجية لـ السياسة الأردنية تمكن السلطات السياسية من إرسال رسائل سياسية موجهة إلى عدة جهات إقليمية ودولية، من بينها "إسرائيل"، والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول العربية والإقليمية، مفادها ؛ "أن الأردن كما أن هناك "اليمين الصهيوني المتطرف في إسرائيل"، يوجد لديه يمين إسلامي صعد إلى المشهد السياسي"، بهدف إعادة تمركز وتموضع الأردن على طاولة صنع القرار الدولي بشكل جديد، خصوصاً مع الحديث عن اقتراب انتهاء العدوان الصهيوني الغاشم على غزة والحاجة إلى دور أردني أكثر فعالية في الملفات الإقليمية.
بـ المقابل يظهر سيناريو جديد على الساحة يمكن أن يكون من أحد التفسيرات المحتملة لصعود الأحزاب الإسلامية من جديد يكمن في إعادة تشكيل بنية الحديقة الخلفية للنظام السياسي بشكل أقوى جنبا الى جنب الموالين واليساريين والمعارضة والعشائر لمواجهة التهديدات "الإسرائيلية" المتزايدة، خاصة تلك المرتبطة بالدعوات لترحيل وتهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن، خاصة أن النظام الأردني وفي ضوء التوترات الإقليمية، خصوصاً مع إسرائيل، يسعى إلى تعزيز تحالفات داخلية قوية تمكنه من التصدي لأي ضغوط خارجية قد تؤثر على الاستقرار الداخلي، وبالتالي يصبح صعود الإسلاميين جزءاً من استراتيجية أكبر للنظام في التعامل مع التهديدات الإقليمية.
في ختام هذه القراءة الخاصة، يتضح أن الانتخابات البرلمانية الأردنية لعام 2024 تحمل في طياتها العديد من الدلالات السياسية والاجتماعية العميقة، فقد كشفت النتائج عن تحولات مهمة في التوجهات السياسية، وصعود قوى جديدة تسعى لإعادة تشكيل المشهد البرلماني بعيدًا عن النهج التقليدي الخدمي والاستعراضي، كما أن صعود التيارات الحزبية والشبابية القوية سياسيًا يشير إلى أن البرلمان المقبل قد يشهد مزيدًا من التركيز على القضايا التشريعية والوطنية، بما يتماشى مع التحديات الإقليمية والدولية التي تواجه الأردن، في الوقت نفسه، يظل دور العشائر حاضرًا، وإن كان بحاجة إلى التطوير ليتماشى مع روح العصر ومتطلبات الدولة الحديثة، لتحقيق توازن سياسي مستدام.