إيران: دولة صفقات أم حروب مفتوحة؟
للكاتب والمحلل الأمني د. بشير الدعجه .
لطالما ارتبط اسم إيران بالعديد من النزاعات والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن استراتيجيتها في التعامل مع الأزمات الدولية والإقليمية تختلف عن الصورة النمطية التي قد تكون مرسومة عنها... إيران ليست دولة تسعى إلى خوض حروب طويلة الأمد، بل تفضل الصفقات والتفاهمات التي تضمن مصالحها وتجنبها الخسائر الكبيرة... فهل نحن أمام دولة صفقات بامتياز، أم أن هناك تفاصيل أخرى تخفى وراء الستار؟
على الرغم من أن إيران تمتلك قوة عسكرية لا يستهان بها، إلا أنها تدرك جيداً حدود قدرتها على خوض حروب مفتوحة طويلة الأمد... هذه الاستراتيجية ليست نابعة فقط من تقديراتها العسكرية، بل من فهم عميق لطبيعة الحروب الحديثة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية... فالدخول في حرب طويلة الأمد قد يكون مدمراً لأي دولة، وخاصة لإيران التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلية كبيرة.
هذا النهج الإيراني يتجلى بوضوح في تعاملها مع القضايا الإقليمية، حيث تفضل دعم الميليشيات والجماعات المسلحة التابعة لها في المنطقة لتحقيق أهدافها، دون التورط المباشر في النزاعات... فأذرع إيران في المنطقة، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن، هي التي تتحمل الخسائر الميدانية والاقتصادية، بينما تظل طهران في الظل، تدير الأمور من بعيد وتحافظ على قوتها ونفوذها السياسي.
النظرة الواقعية للسياسة الإيرانية تؤكد أنها ليست مستعدة لتحمل الخسائر البشرية والاقتصادية التي تترتب على حروب طويلة الأمد... بل إن طهران تفضل الردود المحدودة والمركزة التي تحقق أهدافها دون أن تؤدي إلى تصعيد واسع... هذا النهج يمكن ملاحظته في طريقة تعامل إيران مع اغتيال قادتها العسكريين، مثل قاسم سليماني، حيث جاء الرد محدوداً ومدروساً، بهدف الحفاظ على ماء الوجه دون الانجرار إلى مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة.
في حال تعرضت شخصية بارزة أخرى للاغتيال، مثل إسماعيل هنية من قبل إسرائيل، فإن رد إيران سيكون على الأرجح محدوداً وبالتنسيق مع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة... إيران تدرك جيداً أهمية الحفاظ على قنوات التواصل مع واشنطن، حتى في ظل التصعيد، لتجنب الوقوع في فخ المواجهة المباشرة التي قد تكون عواقبها كارثية.
التنسيق الإيراني الأمريكي في مثل هذه الحالات ليس جديداً، بل هو جزء من استراتيجية معقدة تهدف إلى الحفاظ على توازن القوى في المنطقة... فرغم العداء الظاهري بين البلدين، إلا أن هناك تفاهمات ضمنية أحياناً تضمن عدم تجاوز خطوط حمراء معينة... هذا الواقع يعكس براجماتية السياسة الإيرانية، التي تسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل قدر من الخسائر.
السياسة الإيرانية إذاً هي سياسة صفقات بامتياز، تستند إلى مبدأ تحقيق الأهداف الاستراتيجية عبر الدبلوماسية والتفاهمات غير المعلنة، بدلاً من الغرق في مستنقعات الحروب الطويلة... هذا النهج يتيح لطهران الحفاظ على قوتها ونفوذها، مع تجنب الاستنزاف الذي قد يؤدي إلى إضعافها على المدى الطويل.
إن فهم هذه الديناميكيات يعطينا رؤية أوضح لطبيعة السياسة الإيرانية في المنطقة... إيران ليست قوة تسعى إلى التوسع عبر الحروب المفتوحة، بل عبر الصفقات والتفاهمات التي تضمن لها تحقيق أهدافها دون التورط المباشر... هذا النهج يمكن أن يكون فعالاً في بعض الأحيان، لكنه يحمل في طياته مخاطر الاعتماد المفرط على وكلاء قد لا يكون ولاؤهم دائماً مضموناً.
ختاماً ، إيران هي دولة صفقات بامتياز، تتجنب الحروب المفتوحة وتسعى لتحقيق أهدافها عبر التفاهمات والتحالفات التكتيكية... هذا النهج يعكس فهمها العميق للتوازنات الإقليمية والدولية، ويعبر عن براجماتية سياسية تهدف إلى الحفاظ على مصالحها بأقل تكلفة ممكنة... ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى استدامة هذه الاستراتيجية في وجه التحديات المتزايدة في المنطقة..وللحديث بقية.
#د. بشير _الدعجه