فائض من الدعاة ونقص في السياسيين
عمر كلاب
هناك نزعة على شكل حُمّى اصابت الاحزاب الشمولية , بالتوجه نحو العمل الوطني الداخلي, والتعامل مع اللحظة القائمة كحزب وطني دون اي ارتباط خارجي , ويتحدث منظرو هذه الاحزاب عن تلك الخطوة كاستحقاق فرضته اللحظة االعربية ومخرجاتها, وليس بحكم انتفاء الحواضن وسقوطها, فلم يبق كومنترين او مسكوب, ولم يبق بعث او ناصرية, قادرة على تقديم الدعم, فالتحول او الانتقال للمحلي او الوطني, جاء حُكما وليس تطورا في الفكر والوعي, وقراءة لسيرورة التاريخ ومنطق التحولات الكبرى, التي يشهدها العالم العربي وجدلية الديالكتيك الحاكمة لمنطقه وفجاءاته , فنحن امام تغيرلطبيعة ادوات الانتاج السياسية والاقتصادية في العالم العربي, بحكم انتقاله من مرحلة الى مرحلة جديدة, عمادها افتقاد مقومات الصمود والمواجهة لادوات العصر الجديد وطبيعة اسواق العمل الناشئة والاقتصاديات السائدة .
هذه التحولات شهدتها دول اوروبا الشرقية في اوائل ثمانينيات القرن الماضي, وعجزت الاحزاب المحكومة للسلفية الماركسية من التفاعل الحيوي مع اللحظة التاريخية ,وتغير سوق العمل, وتحول ادوات الانتاج من الصناعي الى المعرفي والتقني , فخرجت الاحزاب الماركسية من المشهد وافلت المنظومة الاشتراكية, ووقف العالم على ساق واحدة لفترة طويلة, قبل ان تنهض روسيا القيصرية, كدولة وليست كمنظومة وفكرة , من تحت الرماد, لتحاول اعادة صياغة المشهد الكوني, وضبط وقفته بالتعاون مع الصين واقطار امريكا الجنوبية والهند, لكن المحصلة كانت انتهاء زمن الاحزاب العابرة للجغرافيا ايضا .
اردنيا ما زالت الفكرة غامضة ومُلتبسة , فثمة احزاب محلية ناشئة, ما زالت تتهجى احرفها السياسية الاولى, ولم تقدم برامجها, وثمة احزاب اكثر نضجا نسبيا, خرجت من رحم جماعة الاخوان المسلمين التاريخية , معلنة بداية افول ظاهرة جماعة الاخوان المسلمين, كمنظومة فكرية عابرة للجغرافيا تحت قيادة مكتب الارشاد العالمي , وبقيت الجماعة على تفكيرها السابق, ولم تستجيب لمنطق الكون, بأجندة وطنية وانتقالها الى العمل السياسي والبرامجي, باستقلالية تامة, فيما يبقى الدعوي شأن منفصل ومستقل عن السياسي, وليس الحال بافضل, فقد بقي شتات الاحزاب الشمولية اليسارية والقومية, وبقايا فصائل منظمة التحرير,على عتبة تسعينيات القرن الماضي, فتكلست وتجمدت اعصابها وقرون استشعارها.
التاريخ لا يمكن معاندته او عكس مساره برغائبية , فالتاريخ يمكن تطوير مساره ونقله الى طور جديد بعد افول الطور السابق, بوعي وقراءة للادوات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , والاخوان كجماعة عابرة للجغرافيا انتهوا وعليهم اعادة التفكير واجراء المراجعة التاريخية اللازمة لبقاء وجودهم السياسي والاجتماعي , فكل ادواتهم تجاوزها التاريخ, وباتت المعارف ملقاة على قارعة الطريق, وسيرفرات الفضاء ورذاذه , وبات داعية واحد يملك نفوذا وتاثيرا يفوق نفوذ جماعة بأكملها, على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الواقع المُعاش فعلا , ولدينا من الدعاة ما يفيض عن حاجة المرحلة, مقابل نقص مهول في السياسيين والبرامج السياسية .
قديما كانت الجماعة تمتلك مخزنا للساسة والمفكرين, قبل ان تخسر معركة الربيع العربي, وقبل ان يختطف المشهد الهواة والموتورين, فهي تتقن وبمهارة فن التأشير على الخلل ولا تتقن معالجته , وقادرة على اسقاط نظام لكنها لا تستطيع بناء دولة, كذلك شعارات الوحدة العربية السابقة ومنظومة الاحزاب الشيوعية, باتت خارج التاريخ والاحزاب العابرة للجغرافيا مجرد خيال, وعلى الاحزاب مراجعة اجندتها سريعا , وعكس ذلك فإن مؤسسات المجتمع المدني, وحواضن التمويل الاجنبي, ستكون البديل الضال والمضلل للمجتمعات العربية, التي تنشط فيها تلك المنظمات وبدعم سخي جدا .