الأردن .. الجغرافيا والموقف وسؤال المشروع الوطني.
فادي العمرو
من جديد يشتبك الأردنيون مع ملف استثنائي حساس ، خلق – كالعادة- اصطفافاً واضحاً بين رأيين ، القابل بالرواية الإيرانية حول جدوى وعوائد الرد على قصف العدو قنصليتهم في دمشق مطلع الشهر الجاري، في مقابل رأيٍ أوسع يشكك في الرواية برمتها ويدفع بوجود تنسيق مسبق جعل الرد باهتاً منضبطاً وأشبه "بالمسرحية”، كما طاب للبعض أن يسميه.
وبعيداً عن الخوض في مفاصل الحدث أو محاولة تقديم روايةٍ محكمة لما حصل ، لابد من التوقف عند عنوان أهم ، يبدو فرعياً في الشكل لكنه جوهري في المضمون والقيمة ؛ الموقف الأردني من الحدث والغوص في محدداته وكيفية قراءته بمعزل عن الغرائز والاسقاطات وحسابات البعض "الداخلية والخارجية”.
في السياق تمثَّل الموقف الرسمي من اليوم الأول – إلى جانب هدف الدفاع عن أهلنا في عزة وتقديم كل مايمكن من مساعدة وإسناد – في السعي الحثيث نحو تطويق الأزمة وضرورة منع اتساع دائرة الحرب بالشكل الذي يهدد كل المنطقة ، والأردن في قلبها، وحين بدأت بوادر الاشتباك المباشر بين العدو وإيران سعى الأردن بكل جهد نحو تطويق الأزمة لتفويت الفرصة على نتنياهو الساعي نحو توسيع الحرب لجر حلفائه في واشنطن وعواصم الناتو الأوروبية خدمةً لمصالحه السياسية الشخصية ولحرب الإبادة التي يشنها على أهلنا في عزة ، ومن جهة أخرى كانت العين الأردنية على مخاطر أي اشتباك واسع بين الطرفين على واقع وجغرافيا ومصالح الأردن، ورغم الإدراك الرسمي المسبق لمحدودية الرد الإيراني الذي ترغب طهران بجعله سياسياً بلبوس عسكري ، لا العكس، إلا أن خطر انتهاز نتنياهو للفرصة لفتح جبهة حرب كبرى في المنطقة ظل ماثلاً حتى الاتصال الذي جرى بين نتنياهو وبايدن ، والذي أكد صوابية القراءة الأردنية لجهة رغبة الأمريكي في ضبط الإيقاع ومنع تفلّت الأمور أو خروجها عن السيطرة، ولجهته قدرة واشنطن على لجم نتنياهو وإن ادّعت غير ذلك.
على صعيد المواقف وحوارات التواصل الاجتماعي العبثية المقلقة كان لافتاً وجود "بعض الأصوات” تعمل بشكل ممنهج لحرف الأنظار عن الحدث الرئيسي وعن الإبادة في غزة أيضاً ، نحو التشكيك بالموقف الأردني ومهاجمة رد الفعل الأردني إزاء الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي اخترقت أجواءنا متجهةً إلى الكيان ، والذي تمثل بالتصدي لها ، وبعيداً عن تكرار عناصر الرواية الرسمية ، والتي أشبعت بحثاً وتكراراً على لسان المسؤولين ، لابد من انتهاز الفرصة لتسليط الضوء على عنوانين رئيسيين؛ استحقاقات الموقع والجغرافيا ، ومحددات الموقف الرسمي الأردني.
للجغرافيا شروطها واستحقاقات تفرضها عنوةً وتفرض بالتالي مسارات وخيارات قد لاتنسجم تماماً مع الأمنيات والمنطلقات العريضة، وفي الحالة الأردنية فرضت "دكتاتورية الجغرافيا/ الموقع” أن نكون في عين المعركة الدائرة منذ عقود ، وعلى أطول خط حدودي مع العدو الذي يحتل فلسطين الحبيبة العربية ولايخفي مطامعه في بلادنا ، وعلى تماس مباشر ومرهق مع ساحاتٍ ملتهبة تشهد صراعات كبرى بالوكالة، مايجعل الأردن في اشتباكٍ دائمٍ مع سيلٍ من الملفات والمخاطر نجح بشهادة القاصي والداني في السير في حقل ألغامها باقتدارٍ ملفت جنّب البلاد دماراً وارتدادات في أحلك ظروف المنطقة وفي أشد لحظات المحيط التهاباً، لكن ذلك لم ولن يتوقف عن حدود ما كان، فجاء التصعيد الصهيوني الإيراني ليضع الأردن مجدداً في قلب العاصفة ويفرض عليه تشابكاً مباشرة مع الحدث ، وبالطبع اختار الأردن بموازاة جهود التبريد أن يتخذ الموقف السيادي الذي لابديل عنه في أدبيات أي دولة تحترم إرثها ووزنها والثوابت التي نشأت عليها، فكان التصدي للمقذوفات التي اخترقت أجواءنا حرصاً على بلادنا من سقوط بعضها، سيما مع مايعنيه قطعها مئات الكيلومترات من تضاؤل هوامش الدقة في بلوغ الهدف، وربما انسجاماً مع التوافقات ، التي أخالها ضمنية، بين جميع الأطراف المعنية لجهة التعاطي مع إصرار ايران على الرد على قاعدة ر . ر (رابح : رابح) ، سيما وأن القراءة الغربية كانت تقول أن منع وصول "معظم” الصواريخ والمسيرات إلى أهدافها سيقلل من إحراج حكومة نتنياهو ويساهم بالتالي في إنجاح مهمة ضبط ردود فعله ومنعه بالتالي من جر المنطقة وربما العالم نحو مساحاتٍ خطيرةٍ مدمرة، وهذا ماكان، فمارس الأردن سيادته على أجوائه ، في مقاربةٍ قد يكون أفضل من عبّر عنها وزير الخارجية "أيمن الصفدي” حين قال عبر ساشة "المملكة” (أن القصة قصة سيادة على الأجواء ، أي أن الأردن كان سيتخذ القرار نفسه لو كانت الصواريخ والمسيرات بالاتجاه المعاكس، أي كانت قصفاً صهيونياً لإيران ، أو غيرها طبعاً)، وهذا يحصر الحكم على القرار في إطار المحددات السيادية الأردنية ، ويفترض أن يقفل باب الغمز من قناة "الإملاءات المفترضة” أو الدفاع عن الكيان الصهيوني، وحاشا أن يكون.
لاشك أن عاقلاً لايمكن أن يشكك في موقف الأردن الداعم للقضية الفلسطينية ، بل المتحد معها، ولا في الشعور بخطر الكيان ومخططاته ،بمعزلٍ عن الموقف من إيران، ولا بضرورة العمل في كل اتجاه لإحباط كل مخططٍ يحاك للمنطقة والوطن ، لكن الأهم اليوم – على مستوى النخب والشارع – هو كيف نخلق دورنا المدافع عن أردننا ومواقفه في هذه المعركة المصيرية، وكيف نجنّب أنفسنا مخاطر هذا التراشق والتيه ومحاولات العبث التي باتت وسائط التواصل أرضاً خصبةً لها ، إلى الحد الذي دفع البعض للتحذير من مخاطر ما يحصل على استقرار الهوية النضالية للأردنيين أمام العبث وحرف البوصلة وتشتيت الناس عن مصالحهم وثوابتهم وانتمائهم الوطني الراسخ، مايستدعي جهداً مضاعفاً من الجميع ، حكومةً ونُخباً وأحزاباً لإعادة الاعتبار لمشروع وطني شعبي يحصّن البلاد والعباد من كل صوتٍ شاذ أو مندس ، ويخلق حواراً بنّاءً يحاكي تطلعات الاردنيين وآمالهم بدل التراشق والحوارات السفسطائية العبثية، ويدفع الواقع السياسي ومستقبل الحياة الحزبية نحو بر الأمان ضمن واقعٍ يشدّها بقوة نحو التراجع والهزال والانحراف عما يخدم الوطن.
أي أنه علينا ببساطة أن نثق بأنفسنا وقدراتنا وبجدوى الرهان على وعي شعبنا وهمّته النضالية ، بعد تشذيب الواقع وتنقيته من كل شائبة في إطار مشروعٍ وطنيٍ جامعٍ يشكل – إلى جانب كل ماسبق – درعاً في مواجهة المشاريع الخارجية التي تستهدف وطننا … وما أكثرها!