نماذج من تجويع الشعوب القسري في العصر الحديث
د.أيوب أبودية
يُعد فرض استراتيجيات الجوع على السكان موضوعا كئيبا واجراميا ومثيرا للجدل، وقد حدث للأسف بأشكال مختلفة عبر التاريخ الحديث. وكثيراً ما تُستخدم مثل هذه الاستراتيجيات كوسيلة لممارسة السيطرة وتوسيع النفوذ، أو معاقبة المعارضة أو المقاومة الوطنية، أو لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. إذ نستعرض ههنا بعض حالات التجويع القسري الحديثة.
لا بد أن نبدأ من مجاعة البطاطس الأيرلندية الشهيرة (1845-1852)، المعروفة أيضًا باسم المجاعة الكبرى، حدثًا كارثيًا في التاريخ الأيرلندي سببته آفة البطاطس والصقيع. ومع ذلك، تفاقمت حدة المجاعة بسبب السياسات الاستعمارية البريطانية، بما في ذلك تصدير المواد الغذائية من أيرلندا إلى بريطانيا وجهود الإغاثة غير الكافية. وقد ساهمت هذه السياسات في انتشار المجاعة والمرض والهجرة الجماعية، مما أدى إلى وفاة ما يقرب من مليون شخص وتشريد ملايين آخرين.
وأحد الأمثلة الأكثر شهرة على استراتيجيات التجويع القسري هو هولودومور(أوكرانيا، 1932-1933)، وهي مجاعة من صنع الإنسان دبرها نظام جوزيف ستالين السوفييتي في أوكرانيا، وقد أدت المجاعة، الناجمة عن سياسات التجميع القسري ومصادرة الحبوب، إلى وفاة الملايين من الأوكران.
وهناك مجاعة البنغال خلال الحرب العالمية الثانية، حيث حدثت مجاعة عام 1943 في المناطق الخاضعة للحكم البريطاني (بنغلاديش والهند حاليًا) وتفاقمت بسبب السياسات البريطانية مثل مصادرة الحبوب للمجهود الحربي، والتضخم، والفشل الإداري. أدت هذه العوامل، جنبًا إلى جنب مع الأعاصير والاحتلال الياباني لبورما المجاورة، إلى انتشار المجاعة والوفيات على نطاق واسع، حيث تراوحت التقديرات للوفيات بين مليونين وثلاثة ملايين شخص.
وخلال حصار برلين (1948-1949) في السنوات الأولى من الحرب الباردة، فرض الاتحاد السوفييتي حصارا على برلين الغربية، التي كانت تحت سيطرة الحلفاء الغربيين. كان الحصار يهدف إلى تجويع برلين الغربية وإجبار الحلفاء على التخلي عن المدينة. ردا على ذلك، نظم الحلفاء جسر برلين الجوي، وهو جهد إنساني ضخم لنقل الغذاء والوقود والإمدادات جوا إلى برلين الغربية. استمر الحصار لمدة عام تقريبًا حتى رفعه الاتحاد السوفيتي في مايو 1949. نجح جسر برلين الجوي في توفير المؤن الأساسية لشعب برلين الغربية، مما منع انتشار الجوع وأظهر عزم الحلفاء الغربيين خلال المراحل الأولى من الحرب الباردة.
كذلك المجاعة الصينية الكبرى (الصين، 1959-1961) خلال حملة "القفزة الكبرى إلى الأمام" التي قادها ماو تسي تونغ، حيث شهدت الصين مجاعة مدمرة بسبب السياسات الزراعية غير الواقعية. وأدت المجاعة، التي تفاقمت بسبب سوء الإدارة الحكومية والدعاية، إلى مقتل الملايين.
والمجاعة الإثيوبية (1983-1985) التي تفاقمت في منتصف الثمانينيات بسبب مجموعة من العوامل، بما في ذلك الجفاف والصراع المدني والسياسات الحكومية التي أعاقت جهود الإغاثة وأعادت توطين السكان قسراً. لقد صدمت صور الأطفال والبالغين الذين يتضورون جوعا العالم ودفعت إلى بذل جهود مساعدات دولية كبيرة.
ثم مجاعة كوريا الشمالية في تسعينيات القرن الماضي التي شهدت فيها كوريا الشمالية مجاعة شديدة عُرفت باسم المسيرة الشاقة، وكانت ناجمة عن مزيج من الكوارث الطبيعية وسوء الإدارة الاقتصادية وانهيار الدعم السوفييتي. فقد أدى إعطاء النظام الكوري الشمالي الأولويةللإنفاق العسكري على توزيع الغذاء إلى تفاقم الأزمة، مما أدى إلى انتشار المجاعة والمعاناة على نطاق واسع.
أما المجاعة السودانية (1998-2000) في أواخر التسعينيات فقد نتجت عن مجموعة من العوامل، بما في ذلك الجفاف والحرب الأهلية ونزوح السكان والسياسات الحكومية التي قيدت وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة. وأثرت المجاعة على ملايين الأشخاص في جنوبي السودان، مما أدى إلى انتشار المجاعة وخسائر في الأرواح. واليوم ما زالت الفرق المتنازعة في شمالي السودان تلجأ إلى تجويع السكان في المناطق المحاصرة.
وخلال الأزمة الفنزويلية (منذ 2010 إلى الوقت الحاضر) شهدت فنزويلا أزمة اقتصادية وسياسية وإنسانية حادة، مما أدى إلى نقص الغذاء وسوء التغذية على نطاق واسع. وقد أدت الأزمة، التي تفاقمت بسبب سوء الإدارة الحكومية والفساد والسياسات الاقتصادية والمقاطعة الأمريكية، إلى التضخم المفرط، وانهيار نظام الرعاية الصحية، وانعدام الأمن الغذائي لملايين الفنزويليين وهجرة الكثيرين خارج البلاد.
أما خلال الحرب الأهلية السورية، ومنذ بداية الانتفاضة الشعبية عام 2011 إلى الوقت الحاضر، تم استخدام الجوع كسلاح من قبل أطراف مختلفة لممارسة السيطرة على السكان. وقد أدت أساليب الحصار، والاستهداف المتعمد للحقول والإمدادات الغذائية والبنية التحتية، إلى انتشار انعدام الأمن الغذائي والمجاعة في المناطق المحاصرة.
وفي الحرب الأهلية اليمنية (منذ 2015 إلى الوقت الحاضر) أدى الصراع المستمر في اليمن إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، بما في ذلك انعدام الأمن الغذائي والمجاعة على نطاق واسع. لقد عطلت الحرب إنتاج الغذاء وتوزيعه، ودمرت البنية التحتية، وقيدت وصول المساعدات الإنسانية، مما ترك ملايين اليمنيين عرضة لخطر المجاعة وسوء التغذية.
وخلال حصار غزة وفي أعقاب فوز حماس في الانتخابات في قطاع غزة عام 2006، وما تلا ذلك من اشتباكات عنيفة بين حماس وفتح، فرضت إسرائيل حصارًا على غزة منذ 2007 إلى الوقت الحاضر، وفرضت مصر قيودًا على موانئها ومعابرها، حيث يقيد الحصار بشدة حركة البضائع والأشخاص إلى داخل غزة وخارجها. وعلى الرغم من السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة من خلال المنظمات الدولية، إلا أن الحصار الذي اشتد بعد طوفان الأقصى بعد السابع من أكتوبر 2023 ساهم في انتشار الفقر والجوع والبطالة وانعدام الأمن الغذائي بين سكان غزة، بعد القطع القسري للماء والكهرباء والدواء والاتصالات. وقد تفاقم الوضع أكثر بسبب الصراع المستمر والتدمير الممنهج لكل شيء من دون أي اعتبار للقيم الانسانية والأخلاقية والدينية، وتحت مرأى ومسمع "العالم المتحضر" أجمعه.
إذ توضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يؤدي الحصار إلى أزمات إنسانية حادة، بما في ذلك نقص الغذاء والماء والدواء والخدمات الأساسية، وانتشار الجوع والمرض . كما تسلط الضوء على أهمية جهود المساعدات الإنسانية التي بدأها الأردن بالاسقاط المظلي على غرار حصار برلين الغربية، وضرورة تغيير منهجية عمل مؤسسات الأمم المتحدة التي تعطل الولايات المتحدة قراراتها، وزيادة سلطة محكمة الجنايات الدولية، وكذلك مضاعفة جهود الحلول الدبلوماسية لتخفيف المعاناة عن الشعوب المظلومة ومعالجة الأسباب الكامنة من وراء الصراع.