حركة حماس: البنت لا تلد أمها
ذكرنا في مقال سابق أن قوى الاستعمار الأمريكي والاوروبي لن تترك غزة قبل تدميرها إن تمكنت من ذلك، ولن تسمح للحلم الفلسطيني في التحرير والحرية بالتقدم ولو نصف خطوة إن تمكنت من ذلك، وأن الكيان الصهيوني ماضٍ في مشروع التهجير بلا هوادة، وأنه مستعد لدفع الأثمان اللازمة على العكس من الأوهام الشائعة بشأن عدم قدرته على تحمل الكُلف، ونظن أنه من الخطأ البناء على أن الأمور تتجه نحو التهدئة أو الانحسار. أيضا، إن العرب الرسميين منقسمين بين عاجز عن الفعل، وبين مؤيد لذلك المخطط في الجوهر بغض النظر عما يُنشر في الاعلام، بل ويدعمونه.
وذكرنا أنه ظهر واضحا أن محور المقاومة ليس جاهزا لتحمل أعباء المعركة وإن كان حاضرًا فيها. كما ذكرنا أن القيادة الفلسطينية ليست عاجزة عن الفعل كما يظن البعض بل هي منسجمة - للأسف - مع بعض أوجه ما يجري في غزة، ظنا منها أن ذلك يفتح الطريق أمامها، ويعيد تأهيلها وإعادة اعتمادها لتبقى في سدة القيادة.
ولتعميق الصورة أكثر، لابد من التوقف عند تصريحات مسؤولين فلسطينيين، والانتباه لتسريبات حول مشاريع وخطط دولية وعربية، يتم التداول بشأنها في عواصم غربية وعربية، التي تتفق غالبيتها على إنهاء المقاومة، فكرة وبناء ووجودا، بغض النظر إن كان ذلك عبر سيناريوهات إعادة الاحتلال أو قوات دولية أو بواسطة السلطة الفلسطينية. الرسميون غالبيتهم، ضد المقاومة أينما وُجدت وكيفما تجلت، منخرطون في التطبيع، ولا يرفضون تهجير الفلسطينيين إلى خارج غزة، وإلى خارج الضفة، طالما لا يتدفق اللاجئون إلى بلدانهم.
فهل هذا قدر لا راد له؟ هل إرادتهم ومخططاتهم لا راد لها؟ قطعا لا.
هذه ليست أوهام ولا تمنيات، والتجربة توضح ذلك. إن ما منع تصفية القضية الفلسطينية على مدار مائة عام - وليس ثمانون يوم - هو الشعب الفلسطيني، الذي رفض الهزيمة ولم يستسلم مهما بلغت حجم الخسائر، ومهما بلغ حجم الضغوط، منذ النكبة، ومن ثم النكسة، ومن ثم الخروج من بيروت، وكلها كانت محطات كبرى ظن فيها عرب رسميين والدول الاستعمارية أن الفلسطينيين قد انتهوا، لكنهم لم ينتهوا. إن الدعم الذي حظيت به الثورة الفلسطينية في مراحل معينة من بعض الحواضن العربية قد ساعدها بلا شك، وهو مقدر دوما، لكنه كان دعما لشعب رفض الهزيمة بالأساس، وإلا ما كان لذلك الدعم أي أثر.
إن العبء الأساسي يقع الآن على قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، التي ينبغي أن تتقدم وتتحمل مسؤولية النضال الفلسطيني لتجاوز كارثة أوسلو وإرثها، تماما كما تمكن الشقيري ورفاقه في منظمة التحرير الفلسطينية من تحمل المسؤولية بجدارة وتجاوز هزيمة النكبة، وتماما كما تمكنت قوى المقاومة وفي مقدمتها حركة فتح من تحمل المسؤولية بجدارة أيضا وتجاوز هزيمة النكسة. لم يكن الطريق ممهدا في أي مرحلة، بل إن المشهد الذي يبرز اصطفاف نفس القوى المعادية بكل ما تحوزه من جبروت وما تنطوي عليه من كراهية وظلم، يحمل في طياته مشاهد مشرقة من الالتفاف الشعبي الفلسطيني حول المقاومة، عقيدة منهجا، ونبذا لنهج التسوية واتفاق أوسلو الكارثي في فلسطين وفي الشتات، مدعوما بما حظي به الفلسطينيين من دعم لا سابق له في أوساط شعوب العالم، ومعززا بالأسئلة الوجودية التي باتت متداولة في أوساط مجتمع الكيان الصهيوني ذاته، وهذه كلها وقائع لا ينبغي التقليل من أهميتها في حساب الخطوات المقبلة.
إن قوى المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس، تقف على أرضية أكثر صلابة مما يظن الكثيرين، ومما يروج له المتخاذلين. إن الشعب الفلسطيني بعدما استوعب المرحلة ونفض عنه غبار النكبة وأطلق مسيرته النضالية، لم يكن حاصلا على اعتراف بحقه في تقرير المصير، ولم يكن لديه "منظمة" اعترف العالم بها ممثلا شرعيا له، ولم يكن لديه علم يرفرف أمام مبنى الأمم المتحدة، ورغم ذلك فرض نفسه على العالم، وعلى العرب الرسميين. ولو توقف من سبق، من الشقيري وياسر عرفات وجورج حبش، عند حجم العقبات والقوى المضادة، ما تقدموا قيد أنملة. وقد واجهتهم معضلات وأسئلة كثيرة ومبادرات، لم يتوهوا فيها، بسبب وضوح الهدف الاستراتيجي.
وفي زحمة المبادرات والوساطات والحوارات، ينبغي التأكيد على حقيقة موضوعية وهي أن الانطلاق مما يخطط له الغير، ومما يطرحه، ليس نقطة البداية الصحيحة، وإن محاولة الإجابة على كل جزئية أو سيناريو مستقبلي هو غرق في الوحل وليس دراسة أو تخطيط، والأخطر من ذلك كله أنه تجاهل للقوة الذاتية وافتراضا مسبقا بعدم تأثيرها. إن استمرار العمل، وتطويره، يخلق معه فرصا، ويفتح آفاقا لن تكون حاضرة قبل البدء.
ولن نتوقف عن القول إن كلمة السر هي أن تتمكن حركة حماس من التوحد والتحالف مع المكونات الفلسطينية المؤمنة بالمقاومة ومن ضمنهم تيار مروان البرغوثي في حركة فتح، والفعاليات الشعبية والشبابية بأصنافها والمنظمات الاهلية والاتحادات والنقابات والشخصيات المستقلة، لتكون حاضرة بقوة في المشهد السياسي بما يحبط الوهم حول شرعية الأصوات التي تدعي انها تتحدث باسم الشعب الفلسطيني، لاستعادة منظمة التحرير الفلسطينية من خاطفيها، والبدء بمرحلة انتقالية لابد منها. وليقتصر الحديث حول مقاومة الاحتلال فقط، وتعزيز نصر السابع من أكتوبر، ومنع تهجير الفلسطينيين من غزة، وإعادة بناء ما دمره تتار القرن الواحد والعشرين من النازيين الصهاينة، ولنطرح جانبا الحديث عن أي حلول، فهذه مرحلة المقاومة وليس مرحلة نقاش الحلول الاستعمارية.
إن نقطة البدء هي من استعادة منظمة التحرير، وبرنامجها الذي يلتف حوله كل الشتات الفلسطيني وكل الداخل الفلسطيني، وليس البدء من أي وضع أفرزته كارثة أوسلو، لأن البنت لا تلد أمها، والبدايات الخاطئة لا يمكن أن تؤدي لنتائج صحيحة.
وائل ملالحه – باحث