ماذا يحدث في غزّة؟
ماذا يحدث في غزّة؟
إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
" مقدِّمة"
مفردة "السؤال" وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين.
د. إياد البرغوثي من فلسطين يكتب لنا من زاويته "ماذا يحدث غزة"؟
غزّة تعيد صياغة العالم أخلاقيا
د إياد البرغوثي / فلسطين
1-طوفان الأقصى يعيد الأمور إلى بداياتها
ليس من الحكمة الكتابة في مسألة متحركة كتلك الحرب التي تجري على غزة اليوم، إذ أن كثيرا من الاستخلاصات والاستنتاجات تترتّب بالضرورة على مجريات الميدان. لكن ذلك إن حدث لاعتبارات معينة، فمن الهام جدا ألاّ يخضع الكاتب لرغبة الجمهور، الذي غالبا ما يطالبه بالتحوّل إلى "نبي" يخبره بنتيجة الحرب، ويريحه من سؤال القلق الذي يؤرقه طيلة الوقت. وعليه أيضا أن يذهب إلى تلك الأبعاد والجوانب التي باتت واضحة، والتي لن يغير استمرار الحرب إلا في جعلها أكثر وضوحا، وهو ما ينطبق على الهزيمة الأخلاقية مكتملة الأركان لإسرائيل، وللنظام الغربي عموما.
لا شك أن البعد الاستراتيجي لأيّ حرب، هو الأكثر أهمية وتأثيرا. لكن الخوض فيه فيما يتعلق بالحرب على غزة ما زال مبكرا، رغم اتّضاح الكثير من ملامحه، فهو يتطلب انتظار النتائج النهائية لتفاعلات الميدان، أما البعد الأخلاقي والقيمي لهذه الحرب، فهو يكتسب أيضا أهمية قصوى واستثنائية، نظرا لمدلولاته التي تتجاوز الصراع الدائر الآن في غزّة و"أكنافها"، لتصل إلى الأسئلة الكبرى المتعلقة بلا أدنى مبالغة، بطبيعة النظام العالمي المأمول، وبحقائق الحاضر والمستقبل للبشرية عامة.
ما يجري في غزة الآن، يعيد الأشياء إلى بداياتها وإلى أسئلتها الأساسية والكبرى، ليس فقط فيما يتعلّق بفلسطين وقضيتها، وإسرائيل و"ملابساتها"، ولكن أساسا بالغرب ونظامه وقيمه، بل و"منجزاته"، حتى في أمور بدت للعالم ولفترة طويلة، إنسانية مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي. ما يجري يضع كل علامات الاستفهام، بل في حقيقة الأمر يزيل كل تلك العلامات، حول الجانب الأخلاقي في حضارة الغرب، فيظهره على حقيقته عاريا، تلك الحقيقة التي كادت أن تختفي خلف "غبار" التقدم والتكنولوجيا والعولمة.
غزة الآن، تحفز فينا ليس فقط الرغبة، بل ضرورة إعادة النظر في كل ما يتعلق بالغرب وحضارته، من موضوع "النهضة" إلى العالم "الجديد" والحروب الاستعمارية والعبودية ومفاهيم الحق والعدل والأخلاق والإنسانية وحتى السلام.
أخلاقيا، أظهرت غزة "العالم الحر" كما ولدته أمه، وكشفت أزمته، وأبرزت ما في حضارته من مخاطر على البشرية؛ "مفهوم" دعم الغرب لإسرائيل سياسيا، لكن تبريره لكل هذه الجرائم التي ارتكبتها في غزة بحق آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، بل وتشجيعها للإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، تجاوز كل منطق. أبطل تأييد الغرب لإسرائيل قدرته على التمويه والتمثيل، وأفقده "حرصه" على إخراج المشاهد بطريقة تظهر "تفوقه" الأخلاقي.
أراد القادة الغربيون إظهار السابع من أكتوبر وكأنه يوم خارج التاريخ، لم يكن شيء قبله، ولم يحدث شيء بعده. توافدوا إلى إسرائيل، من أكبرهم بايدن إلى أصغرهم (يصعب تحديده) ليظهروا تضامنهم معها، وليؤكدوا حقّها في "الدفاع عن النفس" (إبادة الفلسطينيين)، وليجتمعوا مع أهالي "المخطوفين" لإبداء التضامن واكتساب البركة، وكأن مليون فلسطيني دخلوا المعتقلات الإسرائيلية منذ 1967، (إذ لا حاجة الآن لذكر ما كان قبل ذلك)، كان ما زال منهم في السجون حوالي الستة آلاف في يوم السابع من أكتوبر، وأضف لهم أكثر من ثلاثة آلاف بعده، هم ليسوا بشرا.
إن القول بأن النظام الغربي بلا أخلاق لا يمثل كل الحقيقة، فالمصيبة أنه إضافة لكونه كذلك، هو انتقائي وعنصري و"استخدامي" في مواقفه "الأخلاقية". ففي أوكرانيا مثلا ادّعى أن أخلاقه لا تسمح له إلا بالوقوف مع أوكرانيا التي تتعرض "لعدوان" روسي، وأصدرت محكمة الجنايات الدولية، كأحد أدوات النظام الغربي، قرارا بتوقيف الرئيس بوتين بتهمة الترحيل غير القانوني للسكان والأطفال الأوكرانيين، بينما لا ترى المحكمة كما يبدو ترحيلا للسكان في غزة، ولا حتى نقلا لهم، أو ربما تعتبر أن الترحيل بالقصف "السجادي" الجوي والبري والبحري وإبادتهم يدخل في دائرة القانون.
من الواضح أن النظام الغربي الذي وصل في عنصريته وتنمره "الأخلاقي" إلى درجة حرصه على أن "يترفع" عن ارتكاب جرائمه ذاتيا، إلا عند الضرورة القصوى، وأصبح يصنع أدواته "الإجرامية" من الشعوب المقهورة ذاتها، أو من تلك التي لا يهمه مصيرها ما دام ذلك يصبّ في مصلحته النهائية. هذا ينطبق على استخدامه لداعش، والشركات الأمنية، كما ينطبق على استخدامه لأنظمة تابعة كما هو الحال في أوكرانيا وكثير من دول الشرق، وجد أن الأمور تحتاج للتدخل "الشخصي" والمباشر عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، فجاءت بوارجه وقواته حتى قبل بدء المعارك.
ولكيلا تبعدنا هذه الصورة البشعة للنظام الغربي عن الصورة الإيجابية العظيمة للملايين من شعوب الغرب، فإن أعدادا متزايدة من تلك الشعوب، خاصّة الشباب، تكتشف حقيقة نظمها وحقيقة إسرائيل، وتتمسك بموقفها الإنساني تأييدا لخلاص الفلسطينيين من هذا "الكابوس"، الذي مثل دور الضحية لأكثر من قرن من الزمان، فجاءت أحداث غزة الأخيرة لتظهره بكلّ الوضوح الذي لا يترك مجالا لأي شك. هذا التضامن الذي قام به أفراد في الماضي (ريتشل كوري مثلا)، تقوم به الملايين في أمريكا وأوروبا ومختلف بلدان العالم هذه الأيام.
2-إسرائيل.. السقوط الأخلاقي
ما أن وقعت أحداث السابع من أكتوبر حتى فقد الإسرائيليون صوابهم. لم يعودوا حريصين على "تنميق" ردود أفعالهم وعلى شكل وصولها إلى العالم. كشفوا عن حقيقتهم وهذا لم يحدث لهم إلا في مرات نادرة، كان السابع من أكتوبر أبرزها. لقد أثبتت هذه المرات النادرة، أن إسرائيل المذعورة، هي إسرائيل الحقيقية.
في ذلك اليوم عاد الإسرائيليون إلى الجذور.. كيانا عنصريا استعماريا قائما على التخلص من الشعب الفلسطيني تهجيرا أو إبادة، ويرى في وجود الفلسطيني نفيا لوجوده هو.
بعد ذلك اليوم مباشرة صرح نتنياهو أن الذين في غزة ليسوا من البشر، ووصفهم وزير دفاع إسرائيل غالانت بالوحوش الآدمية، وقال إنه سيقطع عنهم الماء والغذاء والكهرباء وفعل، كما هدد وزير التراث الإسرائيلي بضرب غزة بالقنابل النووية.
هذا على مستوى التصريحات، أما على مستوى الإجراءات، فقد قامت إسرائيل بالتنكر لحرية التعبير التي حرصت طويلا على إظهار صورتها كممثل "للعالم الحر" في المنطقة؛ قتلت عشرات الصحفيين في غضون أيام، وأغلقت مكتب قناة الميادين، وهدّدت الجزيرة، وأخذت بالتشويش على وسائل التواصل الاجتماعي ومراقبتها والحدّ من فعاليتها، وأخذ الجنود بالسؤال عن هواتف الفلسطينيين على الحواجز قبل السؤال عن هوياتهم لتفتيشها، وتمت معاقبة الكثير من الإسرائيليين بمن فيهم عضوتي برلمان أبدتا تعاطفا مع ضحايا العدوان في غزة، فقامت بخصم راتبيهما، تماما كما تفعل سلطات بعض بلدان العالم الثالث، تلك التي لا تفرق بين الدولة والنظام، أو بين المواطنة والموقف السياسي.
عسكريا، ضربت إسرائيل غزّة بكلّ مرافقها أمام الكاميرات وبلا أدنى مواربة؛ الأبراج السكنية والبيوت والمستشفيات والجامعات والمدارس التي تتبع في معظمها وكالة الغوث، والبنية التحتية وكل شيء... لم يبقَ شيء أو مكان له حرمة في غزّة، فسقط الضحايا بالآلاف، أطفالا ونساء وشيوخا في مناظر لا يمكن لآدمي مهما كان قاسي القلب أن يتحملها.
هذا ما يفعله النظام الإسرائيلي الآن في غزة، "تفوق" في القتل يزداد حدّة و"نجاعة" كلما أخفق في القتال. مما نشاهد، يبدو أن إسرائيل خدعتنا إذ أقنعتنا أن جيشها يقاتل، فتاريخه لا يتعدى القتل وارتكاب الجرائم. ويريد هذا النظام أن يقتنع الجميع بروايته وبتفوقه، ومن لا يفعل ذلك، سيكون موضوعا "للشيطنة" من قبل إسرائيل والغرب و"توابعهما".
ومما يعمق من مسألة الانحطاط الأخلاقي في إسرائيل، وربّما ما تتفرّد به بين دول العالم، أن ذلك لا ينطبق على النظام السياسي وحده، بل يشمل كثيرا من النخب ومعظم المجتمع، نظرا للحالة الخاصة التي تكون بها ذلك المجتمع. ربّما من أبرز الدلائل على ذلك، إضافة إلى جرائم المستوطنين في الضّفة، تلك العريضة التي وقعها ألف من الأطباء الإسرائيليين يطالبون بمهاجمة مستشفيات غزة بذريعة استخدامها من قبل "الإرهابيين".
من المؤسف أن القوى الصهيونية التي اغتصبت فلسطين وتمثلت بدولة إسرائيل بعد قيامها، قامت أيضا باغتصاب تمثيل كثير من اليهود غير الصهاينة، البريئين منها ومن عنصريتها وأهدافها الاستعمارية. جزء من هؤلاء أخذوا يدركون ما تشكله حقيقة هذه الدولة سياسيا وأخلاقيا، ليس فقط على الفلسطينيين والشعوب المجاورة، بل وحتى على اليهود أنفسهم، كما ظهر في المظاهرات التي شارك فيها العديد منهم استنكارا للجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
إن إسرائيل بأفعالها هذه، تشكل عبئا على الفلسطينيين والعرب والبشرية كلها، بما فيها اليهود أنفسهم. إنها تخلق أزمة لليهود عليهم تداركها بالرفض العلني والواضح لتمثيلها لهم، وبالتبرؤ من كل ما ترتكبه من جرائم. إن عدم تدارك اليهود لخطورة إسرائيل وتصرفاتها عليهم ربما يؤسس لردود أفعال قد يكونوا هم ضحاياها في المستقبل.
تكفي مراجعة سريعة لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لإظهار أن إسرائيل لا "تتنازل" عن أي شيء إلا بالقوة، هذا ما حدث عند انسحابها من أراض احتلتها في مصر وسوريا ولبنان، وهذا ما ظهر في كل حالات تبادل الأسرى. هذا ما يفسر أنّها أفرجت عن آلاف الأسرى عندما امتلك الطرف المقابل وسائل قوة للضغط عليها، بينما لم تفرج حتى عن أسير واحد لأسباب إنسانية، أو مكافأة "لأصدقائها" في الجانب الآخر.
إن الدولة التي لا ترتدع إلا بالقوة، ولا تأخذ عبرة من لحظات ضعفها عندما تكون في أوج قوتها كإسرائيل، يعني أنها دولة بلا أخلاق وبلا ضمير، ويعني أنها عبء على العالم، ليس من السهل التكهن بما قد يصدر عنها من جرائم، وتزداد خطورة ذلك عندما نعرف أنها دولة نووية، وتشعر بدعم مطلق لها من القوى الغربية الكبرى.
3-فلسطين والنظام الأخلاقي الجديد
لا بد للنظام العالمي العتيد أن يكون معقولا ومقبولا... وهذا يعني أنه يجب أن يكون أخلاقيا. لقد وجهت فلسطين بتفوّقها الأخلاقي الذي أصبح مؤخرا في غاية الوضوح، تماما مثلما فعل الوضوح اللا أخلاقي لأعدائها، ضربة قاصمة "للتفوق" الأخلاقي للغرب. هذا يشير ليس فقط إلى دور فلسطين في إعادة صياغة الشرق "أخلاقيا"، بل إلى دورها في إعادة صياغة العالم.
إن الذي جرى في غزة وفي فلسطين مؤخرا، وما اقترفته إسرائيل وأمريكا، والمواقف التي اتّخذتها الدول الأوروبية الغربية دعما للاحتلال وجرائمه، بل تلك المواقف ضدّ وقف إطلاق النار، الذي اتخذه الغرب وكذلك الأمم المتحدة ذاتها، وهي التي يفترض أن يكون ذلك أهم أهدافها، قدم خدمة كبيرة للصين وروسيا وكافة البلدان التي تسعى لإيجاد نظام عالمي مختلف، ينبغي أن يكون أكثر عدلا وأخلاقا.
لقد أثبتت القضية الفلسطينية أن العدل أساس السلام، فالعدل هو ما يزيل الظلم وليس السلام المجرد، وما حديث الغرب وإسرائيل عن السلام دون إزالة الظلم الواقع على الشعوب وخاصة الشعب الفلسطيني، إلا تكريس لنظام عالمي غير معقول.
كما أثبتت شعوب العالم من خلال تضامنها مع غزة وفلسطين، رغبتها في نظام عالمي تسوده الأخلاق. دلّت على ذلك مظاهرات بريطانيا وإسبانيا وإندونيسيا وواشنطن وطلاب هارفارد وغيرها من الجامعات. لن ترضى هذه الشعوب بنظام تتحكم فيه الولايات المتحدة بهكذا أخلاق بمصير العالم، ولن ترضى أن تستمر إسرائيل في فرض احتلالها وعنصريتها وهيمنتها على فلسطين والمنطقة... هذا ما ينبغي أن يكون بعد كلّ ذلك الدّم الذي أسالته إسرائيل في غزّة.