ماذا يحدث في غزّة؟


إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب

" مقدِّمة"

مفردة "السؤال" وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠

في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟

وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت. الكاتب العراقي عوني القلمجي المقيم في الدنمارك يكتب لنا من زاويته "ماذا يحدث غزة"؟

 

رأيت الله في غزة

عوني القلمجي/كاتب عراقي مقيم في الدانمارك

 

1-المقاومة الفلسطينية وتاريخ المقاومات الشعبية

رغم حملة الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان الصهيوني الغاصب، ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّة، وبدعم أمريكا وحلفائها من الدول الاستعمارية الغربية، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتأييد بعض الحكام العرب، الذين اكتفى مؤتمر قمّتهم بإصدار بيان اكتفى بإدانة "العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. مقابل تنصُّل أدعياء التحالف مع المقاومة، ورغم كلّ ذلك، فإن هذا الكيان لم يتمكن من احتلال قطاع غزة، الذي لا يقارن مساحةً بأصغر المدن في الدول العربية، بعد مرور 37 يوما من المعارك الطاحنة، في حين هزم هذا الكيان الغاصب دول عربية في ستة أيام عام 1967 وذلك بسبب صمود شعب غزة وفصائل المقاومة، وبسبب روح التضحية والفداء والعزيمة والإرادة والإيمان بحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

لقد حاول الإعلام الغربي، تشويه هذا الصمود بالتركيز على الدمار والخراب الذي حلّ بغزّة، وحمّل المسؤولية لقيادة حماس، جرّاء تجاهلها حساب القوة العسكرية الصهيونية الهائلة، قبل أن تحقّق قوة موازية لقوة المحتل. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. فقد وضعت الشعوب هذه المعادلة جانبا. ولم تأتِ هذه القناعة من فراغ، أو جرّاء رد فعل عاطفي أو حماسي أو مزاج ثوري، وإنّما أتت وفق قوانين حروب أخرى، لها حسابات خاصة وآليات مختلفة واستراتيجيات وتكتيكات مبتكرة، سميت بحروب المقاومة الشعبية ضد المحتل، أو حروب العصابات في الجبال، أو الغابات أو حروب المدن والشوارع من بيت إلى بيت.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المواجهة بين الجيوش النظامية، عدّة وعددا، لا تصلح حين يتعلّق الأمر بالمواجهة بينها وبين مقاومة مسلحة أو مدنية. ولا أدلّ على ذلك، من المقاومة الجزائرية التي لم تبلغ قوتُها واحداً بالألف من قوة فرنسا، أو الفيتنامية أو الأفغانية ضد الولايات المتحدة أو المقاومة العراقية في الفلوجة ضد قوى المارينز أو المقاومة في أمريكا الجنوبية ضد إسبانيا أو حركة المقاومة الشعبية في روسيا بقيادة لينين، أو الحركة المسلحة التي قادها ماو تسي تونغ ضد حكومة الصين والاحتلال الياباني، أو مقاومة غاندي ضد الإمبراطورية البريطانية، التي تعتبر الهند درة التاج البريطاني. فقد حققت جميع هذه الشعوب انتصاراتها ونالت استقلالها بأسلحة بسيطة وبدائية.

 

2-إستراتيجية المقاومة الفلسطينية وأدواتها:

أما المقاومة الفلسطينية، فهي قد ترجمت هذه الحقيقة بأبهى صورها. فحين تمكن ياسر عرفات من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد أحمد الشقيري ثم يحيى حمودة، تمكن هذا المقاتل حينها من إثبات وجودها ضد هذا الكيان المدعوم من أعتى القوى الاستعمارية، حيث وضع مبدأ تكافؤ القوة جانبا أيضا، رغم فارق ميزان القوى بين منظمة التحرير والقوة العسكرية المحتلة. ومثلما حققت المنظمة انتصارات تعرضت لهزائم، انتهت بإجبار الكيان الغاصب على منح 20 بالمائة من الأرض التي احتلتها للفلسطينيين، ليقيموا عليها سلطة مدنية تفاديا للهزيمة في المستقبل. ولو لم يقدم عرفات على هذه الاتفاقية المذلة، واستمرت منظمة التحرير على مواصلة المقاومة المسلحة، لحققت انتصارات أكبر واستردت في النهاية كامل التراب الفلسطيني.

ليس هذا كل شيء، فحركة المقاومة الفلسطينية قد اتقنت حروب المدن والقتال من نقطة الصفر، ووظفت كل مزاياها بدقة عالية. منها أنّ هذه الحروب تتميّز بطول مدّتها، ومهاراتها وأسلحتها الخاصة، التي قد تهزم بها مجموعة من المقاتلين المدربين والصبورين، أعتى الجيوش المجهزة بأحدث العتاد. كما تنفرّد أيضا بسرعة الحركة وقنص الدّبّابات والمقاتلين أثناء تحرّكهم في المدن. كما تتميّز أيضا بتأمين الخطوط الدفاعية المتحركة والفعالة وتوزيع المقاتلين إلى مجموعات مجهزة بالأسلحة المناسبة. مثل الأسلحة المضادة للدروع والدبابات، المزودة بمعدات الرؤية والقنص، كما تجيد المجموعات القتالية فن الإيقاع بالعدو، حيث تمتلك خبرة واسعة في إعداد الكمائن ومعرفة تامة بالمناطق التي تقاتل فيها. بالمقابل فإن العدو مهما بلغت قوته يرتعد أمام الكمائن التي يصعب اكتشافها، ويعاني في الوقت نفسه من انعدام، أو تعذّر تأمين خطوط الإمداد بالمؤن والذخائر، وكثرة العوائق والمواقع الدفاعية، وكثافة وجود المدنيين، وصعوبة تأمين نقاط المراقبة لرصد المقاومين، وإرشاد القوات الموالية للعدو، وصعوبة التنسيق بين القوات، وضعف الإشراف القيادي على ميادين العمليات.

باختصار شديد جدا، وكما يقول الخبراء والمخططون العسكريون، بأن معارك الشوارع في المدن خلال الحروب تشكِّل "الكابوس المرعب" الذي يجب على القادة والجنود أن يتحاشوه قدر الإمكان، ولذلك يوصون بشن حملة قصف مكثفة على المدن المستهدفة لتدميرها كليا أو جزئيا قبل السماح للقوات بدخولها. وهذا ما يحصل الآن في غزة.

أما بعض السياسيين والمثقفين والمناضلين، فقد نظروا إلى الأمر من زاوية أخرى. إذ ليس بمقدورهم، على ما يبدو، سوى النظر إلى الخراب أو الدمار، فهو مقياسهم للانتصار أو الهزيمة.. وهنا تكفي جملة بسيطة للرد على هؤلاء ضيقي الأفق: إنّ هذا الدمار هو الثمن الذي تدفعه الشعوب لنيل حقوقها المشروعة. أما ما يخصّ العقول التي لها آراء معقولة أقول: إن فكرة مقاومة المحتل عمل مشروع أقرّته الشرائع السماوية والوضعية، مثل قوانين الأمم المتحدة ومعاهدات جنيف ولجان حقوق الإنسان، التي تعطي الحقّ لكلّ شعب أن يقاوم المحتل. وأن هذا الحق لم يشترط نوعا خاصا من المقاومين. كأن يكون قوميا أو شيوعيا أو بعثيا أو ليبراليا أو متدينا أو حتى قاطع طريق، كما لا يشترط منع قائد أن ينفرد بالمقاومة، فـ"ديغول" قاد المقاومة في فرنسا و"غاندي" في الهند و"نلسون مانديلا" في جنوب أفريقيا، ولا يشترط حقّ المقاومة حزبا معينا أو جهة محددة، ولا يشترط أن تكون قوات المقاومة مماثلة لقوة المحتل، أو قادرة على تجنب الخسائر الكبيرة، وقبل هذا وذاك، علينا أن ندرك أنّ حقّ المقاومة لا يشترط الانتصار وتجنّب الهزيمة، وإنّما يشترط المشروعية والإيمان بالحق واستعادته. وبعكس ذلك، فإن انتظار المقاومة بلوغ مستوى قوة المحتل، يعني إبقاء كل هذه الشعوب تحت نير الاحتلال حتى يوم القيامة. وأعتقد جازما بأن أصحاب العقول المتخلِّفة، لن يعثروا في التاريخ البشري كله، على حركة تمكنت من تحقيق توازن القوة بينها وبين المحتل قبل منازلته.

 

3-ما بعد انتصار غزّة وفق القرارات الممتدة من بدء الاحتلال إلى الآن

إن انتصرت غزة أو لم تنتصر، ستسوَدّ وجوه أولئك الذين كرسوا مناقشاتهم في أمر واحد لا غير، هو خطأ تقديرات المقاومة لقوة المحتل، لهدف واحد لا غير، صرف الانتباه عن جرائم الإبادة، التي ترتكبها القوات المحتلة. هؤلاء موتى الضمير، والموغلون في الإحساس بالدونية، لا هم لهم سوى اتّهام الآخرين بالعاطفة والحماسة والابتعاد عن الواقعية وفق مقولة خالف تعرف، والترويج لإشاعات أنتجتها ماكينة الإعلام الصهيوني عن رمي إسرائيل في البحر. في حين أثبتت الوقائع عكس ذلك تماما. فالعرب قبلوا بقرار 194 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها الثالثة بتاريخ 11/12/ 1948 الذي تقرّر فيه "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرِّرون عدم العودة إلى ديارهم، وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".

أمّا أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمّ تشكيلها في مؤتمر القمة العربي عام 1967 أحمد الشقيري، فقد طرح مبادرة يتعايش فيها العرب واليهود بدولة واحدة. بل ذهب خليفته يحيى حمودة إلى أبعد من ذلك، بأن دعا وبالحرف الواحد، حسب جريدة النهار اللبنانية في 3 كانون الثاني يناير 1968 إلى أنه "يجب مواجهة الأمور وعدم المطالبة بالمستحيل، نحن نقول لليهود حتى الذين أتوا إلى فلسطين بعد 1948 تريدون السلام حقا؟ اقبلوا أن تعيشوا مع العرب في دولة فلسطينية يهودية، حيث يكون لكلّ فئة حسب استحقاقها وحقوقها" أما الثائر ياسر عرفات الذي كان ثالث رئيس لمنظمة التحرير فقد صرح من العام نفسه بأنّ على العرب واليهود، أن يقبلوا العيش في دولة علمانية واحدة". أما جمال عبد الناصر، المتهم عن جهل مطبق، بالغوغائية، فقد وافق على مبادرة وليم روجرز وزيرة خارجية أمريكا، المعروفة أيضا بالضربة العميقة في 5 حزيران عام 1970 ثم تلتها اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ثم مبادرة الملك فهد عام 1982 ثم قبول الفلسطينيين بالخروج من لبنان بعد الاجتياح الصهيوني للعاصمة اللبنانية بيروت، تلتها اتفاقية أوسلو في النرويج عام 1993 ثم تطبيع دول عربية والقائمة طويلة. وفي المقابل كان الرفض والعدوانية وتكريس الاحتلال والتوسع سمة الحكومات الصهيونية المتعاقبة. وحين قبل إسحاق رابين بحلّ الدولتين تم اغتياله على الملأ وبفتوى دينية، من المتطرِّف وزير الأمن الصهيوني الحالي، اجتمار بن غفير.

يقول المفكر الاستراتيجي المعروف هنري كيسنجر، أحد رموز الفكر والدبلوماسية الأمريكية، "إذا لم يلقِ المقاوم سلاحه ويستسلم فإنه منتصر. وشعب فلسطين وفق هذا المنظور الصحيح انتصر في غزة. وإذا خسر هذه الجولة، فهناك جولات ستقودها كوكبة أخرى من المقاتلين، كما حدث وتعاقبت أجيال المقاومة، على مدى ثمانين عاما من التضحية والفداء. وستحظى بمزيد من الدعم والإسناد من قبل شعوب العالم الذي حظيت به الآن.