العاصفة.. الجارفة.. الصارفة..! والمسميات البراقة الزائفة
تزاحمت في أروقة الأدب والمال وساحاتها شخصيات متنكرة بألقاب فارغة من المضمون، وليس لها من تلك الألقاب إلا جوازات سفر مزورة؛ تخترق بها ومن خلالها صفوف العلماء والأدباء والمفكرين وأصحاب الخبرة..!
وقد شاعت وتصاعدت المسميات الرنانة المُفَخَّمة لمن لا اسم لهم ولا عنوان؛ نحو:
البروفيسور، والدكتور، والخبير الاستراتيجي، والخبير الدولي، والمستشار، والمحلل السياسي، والسفير والسفيرة، ورجل الأعمال، وسيدة الأعمال، والباحث والباحثة، والكاتب والكاتبة، والأديب والأدبية، والمؤلف والمؤلفة، والروائي والقاص..إلخ!
وأنا -هنا- لا أتكلم عن الشهادات المزورة أو الشهادات الفخرية التي أصبحت تُباع بالأسواق، أو الألقاب الوهمية في أصلها ومضمونها، بل الذي يعنيني في هذا المقام أنني -وبكل تواضع- أعدُّ نفسي "طالب علم"، ولكن عندما أقابل هؤلاء أصحابَ الأسماء الرنانة لا أجد عِلمًا ولا ثقافةً ولا معرفةً؛ لا في كلماتهم، ولا في كتاباتهم، ولا في حديثهم..!
لا؛ بل أجد بعضهم من أصحاب (الدَّكْتَرة) "أمّـيًّا" بامتياز! وبعض الكُـتّاب لا يجيد الإملاء فضلًا عن التعبير والأدب!
وسيدة أعمال فقيرة، وشاعرة لا تَـقْدر أن تتحدث بأربع كلمات مستقيمة؛ وقد تكشف زيفها بمجرد التعبير عن فكرة أو في قراءة نص، أو في مناقشة أيّ أمر يحتاج إلى خبرة ودراية، وما ذلك إلا تعويضٌ عن نقص مُدْقِع في الفكر، وزَيف مُغَلَّف في الشخصية!
ومن سِمات المرحلة - وما أكثر ما أصبح صفة سائدة في مجتمعنا، وعلى كافة المستويات - استسهالُ البعض في خلع الألقاب والصفات العلمية والدرجات كمفردات تسبق الأسماء، والتي تنوعت وشاعت لدرجةٍ تبعث على التقيّؤ!
وكان لمحطات التلفزة العربية الدور الأكبر في تضخيم "الأنا" و"النرجسية" لدى قطاعات كبيرة من الموهومين عندما يخلعون على أنفسهم من الألقاب والدرجات العلمية ما قد يستصعب عليهم أنفسِهم تفسيرُها بالطريقة العلمية الصحيحة!
يتميز هؤلاء المتعالمون الذين أصبحوا فرسانَ المنابر بلا فروسية، وواجهاتٍ اجتماعية بغير حقٍّ واجتهاد في التَّـتَرُّس بألقاب ومسميات براقة من غير استحقاق..!
يتميزون بأنهم في ذلك يُشبعون أوهامَ أنفس مريضة، وفي واقع الأمر تراهم في حالٍ تستحق الشفقة من ضَحْل المعلومات وضعف الشخصية، ولكن مع محاولات احتيال فاشلة حتى فيما يمكن أن يقدم به نفسه للمجتمع ولوسائل الإعلام وعلى كافة المستويات..!
ويمكن القول: إن معظم هؤلاء ما هم إلا أدوات ومعاول لهدمِ مجتمعاتٍ غُـيِّبت فيها العقول والإمكانات والكوادر صاحبة الكفاءة، وكأنّ هناك قوى ما تسعى إلى تعويم تلك الأدوات من أجل الإمعان في تقطيع أوصال مجتمعاتنا التي تسعى إلى تَلَمُّس طريقها نحو التطوير والرقي والتحضر.
ما أكثر ما تُطالعنا محطات التلفزة العربية بشخصيات تتربع على الشاشات تجيد فنّ القيء على الهواء، ويتناولون أي شأن يخص مجتمعاتنا بسطحية واضحة وتحليلات ضَحْلة الاستعراض والتمحيص في بواطن الأمور من أجل رسالة أسمى؛ للتأكيد على أن حركة تجهيل المجتمعات هي فعل مخطَّط له بعناية ومدروس؛ حتى إننا نطالع الكثير من الألقاب والمسميات لشخصيات غير معروفة تطلق على نفسها ألقابًا كبيرة، وتَنسُب لنفسها مراكز بحثية بعناوين براقة وفي عواصم متفرقة حول العالم تُعنَى -حسب ادعائهم- بالاستراتيجيات والأبحاث واستشراف المستقبل؛ وكأننا أمام عوالم الضرب في الرمل والتنجيم، ولا يعرف المتلقي تبعية تلك المراكز التي انتشرت كدكاكين الوراقين حول عواصم العالم، وهي ممالك لأصحابها يصولون ويجولون دون معرفة تبعية تلك المراكز ومصادر تمويلها، ولأي جهات تقدم تلك المراكز أبحاثها المدعاة!
كبيرٌ هو وَجَعُ الأمة، والاستهداف ليس وليدَ المرحلة، بل هو امتداد لمراحل سابقة، لم تكن ضربًا من العبث، إنه منهج ورؤية تهدف إلى هدم حاضر أمة ومستقبلها ليقود إلى ضياع أجيالها، والعملِ على وأد الانتماء والهوية من خلال تلك الأدوات، والألقاب والصفات والدرجات العلمية التي أصبحت لازمةً لأسماء الكثير من شخصيات المجتمعات المحلية هذه الأيام، وهي الأداة الكفيلة بالإمعان في تقطيع أوصال الأمة.
ليتنا نحترم قيمنا وقممنا العلمية ومناراتنا التي أفنت جل حياتها في البحث والدراسة ومتابعة الوصول إلى أعلى الدرجات العلمية.
وأنا أتوجه إلى هذه الشِّرذمة من المزيفين بالقول: اتركوا الساحة لأهلها الذين أفنوا أعمارهم من أجل تحصيل العلم النقي ليفيدوا العالم به، واتركوا المنابر لأهلها الذين يتسابق الناس إليهم لينهلوا من معين أفكارهم أو يفيدوا من تجاربهم! لقد أفرغتم الألقاب من محتواها الحقيقي وملأتموها بزَبَدٍ يذهب غُثاء كغثاء السيل.
استحيوا يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم!
طويلب العلم:
(البروفسور الدكتور محمد أبو الفرج صادق)