د. أيوب أبودية يكتب..الجهل كمصدر لتلوث البيئة وانتشار المرض
التلوث الناجم عن الجهل Ignorance Pollution ، أو الحديث عن الجهل كمصدر لتلوث البيئة، هو مصطلح صاغه المؤلف وأضافه الى ويكيبيديا، وحسب علمنا فلم يتم استخدامه من قبل في أي من الأدبيات الأكاديمية أو العلمية. والمقصود بالتلوث بالجهل كتعبير مجازي يستخدم لوصف المواقف التي ينتشر فيها الجهل أو المعلومات الخاطئة أو المعتقدات الافتراضية أو الحقائق غير الدقيقة أو تلك المعلومات الناجمة عن نقص المعارف، إذ تنتشر على نطاق واسع على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وتحدث تأثيرا ضارا على المجتمع، بطريقة لا تقل ضررا عن تلوث البيئة بفعل أي جسم مادي ملوث لعناصر البيئة المختلفة، وربما أكثر. ومن الأمثلة على ذلك إنكار البعض لظاهرة تغير المناخ، والآثار المترتبة عليها، وأسبابها البشرية. كذلك حال انتشار نظريات المؤامرة عن اللقاحات، وإنكار الضرر المرتبط بالأنشطة النووية والمواد الكيميائية السامة، وغيرها.
مع تزايد التواصل السريع بين الأشخاص واندياحه حول العالم عبر الشبكة العنكبوتية، أصبح ممكنا أن تنتشر المعلومات الكاذبة أو المضللة بسرعة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، مما يدفع الناس إلى تصديق حقائق غير دقيقة أو نظريات تشوبها نظرية المؤامرة. ويمكن لهذه المعلومات الكاذبة أن تؤدي إلى ارباك عام وتشكيك في الحاجة الملحة لمعالجة ظاهرة تغير المناخ. كأن يقوم الأفراد والجماعات بنشر معلومات مضللة إنكارا لتغير المناخ، فيزعمون أن تغير المناخ ليس حقيقيا أو أن الأنشطة البشرية لا تساهم في تعمقه، وأنه مجرد خدعة، أو محض ظاهرة طبيعية، أو حيلة من قبل العلماء والحكومات لتحقيق مكاسب مالية. وقد يؤدي ذلك إلى تثبيط دعم السياسات الرامية إلى الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، أو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، وغيرها من النشاطات الخضراء. لذلك، فإن نشر معلومات مضللة بشأن إنكار تغير المناخ يمكن أن يعوق الجهود المبذولة في معالجة القضايا البيئية والحد من انبعاثات غازات الدفيئة. بل يتناقل البعض مزاعم مفادها أن هناك برودة عالمية قادمة قريبا، وبالتالي فإن الاحتباس الحراري الحالي هو نعمة وليس نقمة؛ وهي فكرة مبنية على تكهنات محتملة وليست قائمة على أدلة دامغة.
فمثلا، يمكن أن يؤدي انتشار المعلومات غير الصحيحة حول اللقاحات ضد الأمراض إلى عواقب صحية خطيرة، وذلك عندما يتخذ الأشخاص قرارات حاسمة بناءً على بيانات خاطئة ومضللة. فمثلا خلال جائحة كوفيد-19، كورونا، ظهرت نظريات مؤامرة مختلفة حول اللقاحات وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم. أحد الدعاوى غير الدقيقة التي انتشرت على نطاق واسع هو أن اللقاحات تحتوي على شرائح دقيقة للتتبع. وهذا الادعاء لا أساس له من الصحة ولا يدعمه أي دليل علمي. ومع ذلك، فقد اكتسبت النظرية شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي، مما دفع بعض الأفراد إلى التردد أو رفض التطعيم، مما شكل خطرا كبيرا على الصحة العامة.
إن تشويه الأحداث التاريخية أو إنكارها يمكن أن يؤدي إلى إدامة الصور النمطية الضارة أو الروايات الكاذبة ويعوق التعلم منها. فعلى سبيل المثال، كانت كارثة تشيرنوبيل النووية في عام 1986 واحدة من أسوأ الحوادث النووية في التاريخ، قبل كارثة فوكوشيما عام 2011. فقد أطلقت كارثة تشيرنوبيل كميات كبيرة من المواد المشعة في البيئة، مما أدى إلى وفيات فورية، وعواقب صحية طويلة الأجل، وتلوث بيئي شامل ما زال حتى يومنا هذا، وسوف يبقى الى ملايين السنين. فعلى الرغم من الأدلة العلمية الدامغة والاعتراف الدولي بكارثة تشيرنوبيل وآثارها المدمرة، إلا أن هناك حالات من الإنكار أو التقليل من عواقبها وآثارها الضارة على الصحة والبيئة وذلك ترويجا لمشاريع نووية جديدة. هذا النوع من الإنكار يمكن أن يؤدي إلى إدامة الصور النمطية الضارة أو الروايات الكاذبة حول سلامة محطات الطاقة النووية التامة، مما قد يؤدي إلى انخفاض الوعي العام واليقظة فيما يتعلق بالمخاطر البيئية والصحية المرتبطة بها.
ويزعم البعض أن الطاقة النووية هي مصدر نظيف للطاقة، في حين أن دورة الوقود النووي الكاملة هي مصدر تلوث كبير عندما يؤخذ بعين الاعتبار تعدين وتخصيب وتصنيع اليورانيوم والاشعاعات المصاحبة. ويزعم آخرون أن النشاط الإشعاعي مفيد للبشر، متجاهلون الحدود التي يمكن للبشر استيعابها من الاشعاعات حتى في حالة عمل المفاعلات الطبيعي، ناهيك بحالات الكوارث. إذ يمكن أن تعوق هذه المعلومات الخاطئة الجهود المبذولة لضمان التشغيل الآمن والتنظيم الآمن للمنشآت النووية، والتي تعتبر ضرورية لتقليل المخاطر المرتبطة بتوليد الطاقة النووية.
في أجزاء كثيرة من العالم، تتمتع مجتمعات السكان الأصليين بتراث وثقافة بيئية إيجابية متشابكة بشكل وثيق، مثل ارتباط المياه والغابات والتنوع الحيوي برمته. فقد لا تدرك شركات التعدين بشكل كاف الأهمية الثقافية لجبل معين أو غابة معينة أو موقع تراثي مهم لمجموعة من السكان الأصليين. فإن الجهل بالأهمية الروحية والتاريخية والبيئية لهذه المواقع يمكن أن يؤدي إلى استخراج الموارد دون النظر بشكل مناسب إلى تأثيرها الثقافي والبيئي والنفسي والمجتمعي، كعدم الاستقرار السياسي وهجرة اللاجئين البيئيين الذين قد يؤثرون على العالم بأسره.
كذلك فإن عدم كفاية فرص الحصول على التعليم الجيد يمكن أن يؤدي إلى انتشار الجهل على نطاق واسع، مما يحد من فرص محاربة الجهل للأفراد والمجتمعات وبالتالي يدمر البيئة. وفي العديد من البلدان النامية، غالبا ما تواجه المناطق الريفية تحديات في توفير التعليم الجيد لسكانها، وهي المناطق التي ما زالت تحتوي على ما تبقى من الأنظمة البيئية الطبيعية على حالها. فمن الممكن أن تؤدي الموارد المحدودة، وعدم كفاية البنية التحتية وترهلها، ونقص المعلمين المؤهلين إلى عدم كفاية الفرص التعليمية للأطفال في تلك المناطق، وبالتالي يتعمق الجهل بأهمية السلامة البيئية لديمومة مجتمعاتهم.
ولا ريب أنه يمكن تزييف الجهل بالتلوث، فقد تتظاهر بعض الشركات أو الصناعات بالجهل بمساهماتها في التلوث العالمي، فتحافظ على تأثير نشاطاتها الضارة على البيئة، أو تتلاعب بالبيانات، أو تستخدم إعلانات مضللة لخلق واجهة من المسؤولية البيئية، وذلك رغم استمرارها في الممارسات الملوثة للبيئة فيما وراء الكواليس. وعادة ما تقوم بذلك للحفاظ على صورة إيجابية عامة وتجنب التدقيق الفني الرسمي وتتحايل على القوانين. ومع ذلك، فمن الضروري التأكيد أن هذا النوع من الخداع غير أخلاقي وغير قانوني ويمكن أن تكون له عواقب وخيمة على البيئة، فضلا عن تراجع ثقة الجمهور في تلك المؤسسات. لقد تم وضع الأنظمة البيئية وتدابير لمحاسبة الملوثين تماما لهذه الغاية، لذلك يمكن أن تؤدي الجهود المبذولة لتزييف الحقائق بالجهل المتعمد إلى الإضرار بالجهود المبذولة لمعالجة التلوث وتعزيز الاستدامة.
كما أن الجهل بالعواقب البيئية لبعض الإجراءات أو الممارسات يمكن أن يدفع الأفراد والشركات والحكومات إلى الانخراط في أنشطة ملوثة دون إدراك ووعي بتأثيرها العظيم. فيمكن أن يؤدي الجهل إلى سوء اتخاذ القرارات عندما يتعلق الأمر بالسياسات والأولويات البيئية. وبدون فهم واضح للقضايا البيئية، قد لا يتمكن صناع السياسات من تنفيذ تدابير فعالة للسيطرة على التلوث والتخفيف من آثاره. إذ يمكن أن يؤدي الجهل إلى الاستخدام غير الفعال للموارد، مثل الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري أو الإفراط في استخدام الموارد الطبيعية، مما يساهم في التلوث. كما يؤدي الجهل بالبدائل الصديقة للبيئة إلى استمرار الاعتماد على التقنيات أو الممارسات التقليدية الملوثة. وقد يجعل الجهل من الصعب محاسبة الملوثين على أفعالهم، حيث لا يكون الناس على علم بالضرر الذي يحدث. كما يمكن للجهل أن يعزز مقاومة تبني سلوكيات أو تقنيات أكثر استدامة، حيث قد لا يكون الناس على دراية كافية بالفوائد الجمة الناجمة عنها، أو قد يخشون من المجهول بفعل الجهل بها.
وفي الختام، يمكن للجهل أن يعوق التقدم في معالجة التلوث البيئي من خلال إعاقة اتخاذ القرارات المستنيرة وإدامة الممارسات الضارة. والتعليم والتوعية أمران حاسمان في التخفيف من هذه الآثار. إذ وضحت الأمثلة السابقة كيف يمكن أن يساهم انتشار المعلومات الخاطئة أو نقص المعارف أو المعتقدات الخاطئة في ما يمكن الإشارة إليه مجازًا بـ "التلوث بالجهل"، مما يؤثر سلبا على المجتمعات والبيئات المتنوعة واستدامتها بطرق مختلفة، سواء وقع ضررها مباشرة في الوقت الحاضر أوعلى الأجيال اللاحقة في المستقبل.