ثورة الإسلام الروحية والسياسة ...



 يقول المرزوقي بأن الحدث التاريخي هو في الحقيقة حديث عن حدث مضى ، نحاول فيه في هذا الزمان فهما وصراعا ونقاشا وحديثا للوصول إلى حديث نتفق عليه أو نختلف عليه عن المستقبل حتى نصنع الحدث المستقبلي لاحقا .

قليلة هي المحاضرات التي تشعر بها أن المحاضر قام بجذب إنتباهك منذ اللحظة الأولى ، أبو يعرب المرزوقي الفيلسوف الذي يريد الحقيقة ويسعى لها ، هو كغيره من بني البشر له وعليه ، ولكن أن تبذل كل هذا الجهد من أجل الحقيقة فهو شيء يستحق الإحترام .

نحن نسعى في هذه الأرض بدروب شتى وكل منّا له مشاربه ويسعى نحو هدف خاص به ، ولكن مع ذلك هناك نقاط إلتقت البشرية عليها ، وسعى نحوها مجموعات مختلفة من البشر من مختلف الحضارات والأزمنة ، وما نحن بصدده اليوم هو من هذا القبيل .

فبناء الدول المستقرة القوية والمستمرة هو هدف ، وسعى نحو هذا الهدف البشر منذ البداية ، والقرآن جاء بالمنهج الذي يسمح ببناء هذه الدولة وفق هذه المعطيات ( يا أيها الناس أتقوا ربكم ) ( وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ) هذا الإنسان لا يتفضل بجنس ولا ميزة ولا حتى سابقة إسلام ولا غيره عمن اسلم لاحقا ، فالكل هنا سواء ، وحتى من لم يدخل الإسلام هو في الحقيقة عنصر ولبنة في هذه المجتمع وله مطلق الحرية في عبادته وأماكن العبادة وممارسة الشعائر ، بشرط السماح بقيام دولة الإنسان وهي الدولة التي تحكم بها العدالة والحرية والمساواة بين البشر .

الدولة هي الدولة الطبيعية كما يسميها المرزوقي ، وهي الدولة التي تعطي الإنسان لإنه الإنسان ، فإعمار الإنسان هنا لهذه الأرض الهدف منه هو تحقيق الإستخلاف وتحقيق مفهوم الإستخلاف ، وهذا المفهوم لا يحققه إلا الإنسان الذي حقق الوعي الروحي والفكري وقام المنهج في نفسه ليحقق العدالة بين بني البشر في هذه الأرض على أساس المفهوم الطبيعي وليس الديني ، فالبشر متساوون في الحقوق ومتساوون في الواجبات ، ولهم الحرية في الإعتقاد والعبادة بشرط تحقيق الحرية للأخر وبدون منعه من القيام بدروه .

 ما أتفق عليه مجموعة من المفكرين نحن نعيش في المرحلة الظنية ، وهي تلك المرحلة التي توقعتها الملائكة من أن هذا الإنسان بصورته المتوقعة سيكون سبب فساد في الأرض وسفك للدماء ، فهذا الظن من الملائكة نحن لم نتجاوزه إلى هذه المرحلة .

جاء الإصلاح الأوروبي والذي تأثر بما رأه في العالم الإسلامي ليغير مفهومين إثنين ، الأول هو تلك الواسطة بين العبد وربه والتي كانت تتحكم بالإنسان وتوجيه هذا الإنسان حسب ما ترى ، والثاني هو لإزالة القداسة عن السياسة وان حكامها لا يحكمون بإسم الله ولا قداسة لهم ولا لإحكامهم ، وكان ذلك في الثورة على الملك الإنجليزي في العام 1688 وكانت سببا في إعدامه وأنه هو المسؤول عن تصرفاته ولا يحمل وزر هذه التصرفات أحد غيره ، بعد ذلك ساهمت هذه الحركات بتحرير أوروبا وإنطلاقها نحو المستقبل .

ما أنطلق به جان جاك روسو وكانط وغيرهم في سبيل تحرير الإنسان وإنسان أوروبا تحديدا من ربقة الدين والسياسة ، في مرحلة ما قبل الإستعمار أصطدم به هيجل وماركس في صراع الأرواح أو الطبقات أو الحضارات في مرحلة ما بعد الإستعمار ، فإنحرفت البوصلة من التحرير والإعمار إلى الإستعمار والإستعباد ، والتبرير للإيدولوجية العنيفة في إنها الطريق لتحرير الإنسان من البربرية بزعمهم ، مع أن هذه البربرية هي التي كانت السبب في تحرير إنسان أوروبا من عبوديته بداية ، لتدفع هي ثمن تحرره لاحقا .

الإسلام كان منهجا واضحا في عقول بعض الصحابة ، وما قام به أبو بكر رضي الله عنه من توحيد المكان ضمن للدعوة القوة والثروة والعدد وإستمرار هذه الدعوة الجديدة ، وما قام به عمر رضي الله عنه هو توحيد الزمان بتاريخ هجري ضبط معه التنمية الروحية والثقافية لهذه الأمة ، وما قام به عثمان رضي  الله عنه هو أنه جمع المنهج وهو القرآن وضبط نسخه ومصادرها وحفظه من العابثين ، فمنع الأيدي من الوصول إلى المنهج وتحريفه ، وإن كان مع ضبطه للنص لم يستطع أن يضبط الفهم ، ومن هنا كانت الفتنة في الفهم وليس في النص هي سبب في مقتل عثمان رضي الله عنه .

الإسلام أيضا  لم ينج من محاولة إتباعه حرف البوصلة عن المنهج ، مع ما قام به معاوية رضي الله عنه، حيث أنه أبقى الدستور والمنهج نعم ولكنه أباح لنفسه وفق الضرورة الزمانية الإنتقال من الخلافة إلى الملكية ، هذا الظرف الطارىء ظل هو المسيطر لقرون ، وللإسف هنا وكما يقول مالك بن نبي بأن الدفعة الحضارية الإسلامية توقفت عند معركة صفين ، بعدها دخلت الأمة في جملة من الإجتهادات وفقه الواقع والمصلحة ، ودفع المنهج الإسلامي والإنساني مرة أخرى الثمن بعدم القدرة على إعطاء نموذج حضاري ينقل الإنسان من مرحلة الظنية إلى المرحلة الحضارية .

نحن لم نتقدم خطوة للمنهج الإسلامي ( لمن شاء منكم أن يتقدم ) نحن توقفنا في الفهم والتطبيق عند ذلك الحد في صفين ولم نستطع تجاوزه ، وظل المنهج سجين الكتب والأفكار والأشخاص ، وحرمت البشرية من هذا المنهج .

يقول المرزوقي بأن الحدث التاريخي هو في الحقيقة حديث عن حدث مضى ، نحاول فيه في هذا الزمان فهما وصراعا ونقاشا وحديثا للوصول إلى حديث نتفق عليه أو نختلف عليه عن المستقبل حتى نصنع الحدث المستقبلي لاحقا .

والأمة الراشدة تقسو على تاريخها ولكن من أجل صناعة حاضر مشرق ومستقبل أكثر إشراقا ، أما الغرق في الماضي لأجل إستمرار الخلاف وتعميقه في الحاضر والمستقبل ، وأن يكون الماضي هو الحديث الذي يصنع المعركة في الحاضر والمستقبل فهذا ما لا يقبله العاقل .

فالدولة كما يقول إبن خلدون هي دولة الشرع أو العقل أو الهوى ، ودولة الإسلام التي هي دولة الشرع والتي لا يحدها زمان ولا مكان ولا عرق ، وضابطها هو الشرع الذي جعل الإنسان هو مناط التكليف والعدالة والمساواة ، ومنحه الحرية ليتصرف في هذه الأرض وفق شرع يضمن له حقوقه ويفرض عليه واجباته ، ويعامله بالتكريم ويجعل الضابط هو التقوى .

هذه الدولة التي تريدها البشرية وتسعى لها ، ولكنها لم تتحقق لغاية الآن ، إلا في زمان محدود جدا .

محاضرة أبو يعرب المرزوقي...

إبراهيم أبو حويله