عظمة الإستقلال بـ قدرتنا على التحمل وصناعة الإنجاز في ذروة الأزمة

 خليل النظامي 

بداية يجب الإعتراف بـ أنه لا يوجد دولة في العالم مثالية، وجميع دول العالم تتعرض لـ ازمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية وغيرها من أشكال الأزمات، ولكن القياس ليس بـ كبر حجم الأزمات والمصائب، وإنما القياس بـ قدر حجم تحمل الدولة لـ هذه الازمات والخروج بـ أقل الخسائر، وبكفاءة وحكمة رجال الفكر وشجعان القتال فيها وقدرتهم على الصبر وإدارة المعارك وقيادتها وصولا لـ النصر. 

في الأردن ازماتنا تختلف عن باقي أزمات دول العالم، نظرا لـ الإختلاف في طبيعة المركز الجيوسياسي، وطبيعة النظام الحاكم فيها، إضافة إلى طبيعة وصفات الشعب الأردني الذي يعيش فيها، فـ الأردن في مكانها الجغرافي محاطة بـ حزام من نار لا تنفك أن تنطفىء، فمن الحدود العراقية والتفكك الحاصل فيها، وحربها على الإرهاب، إلى الحدود السورية وتواجد الميليشيات الإيرانية وصناعة المخدرات، وصولا إلى الحدود مع الحبيبة فلسطين وما يحدث فيها جراء الكيان الصهيوني المحتل. 

وتباعا لـ أزمة الحدود الأردنية مع الدول المجاورة، إلى توابع الحروب والإنفكاكات الحاصة فيها وأثرها على الداخل الأردني، فـ تجد أن معيار الإنسانية التي يعمل على اساسه النظام السياسي وما يتميز به المجتمع الأردني من صفات عظيمة في الشجاعة والكرم، فرضت عليهم وبكل صدر رحب إغاثة إخوانهم النازحين جراء الحروب والكوارث من سوريا والعراق واليمن وفلسطين ولبنان، وتحملوا تبعات هذا النزوح واللجوء وما ترتب عليه من أعباء كبيرة جدا على كافة الصعد، في ظل وعود مجتمع دولي خذلنا خذلان كبير.

ويعلم الجميع بحقيقة ما يتعرض له الأردن ونظامه الحاكم من ضغوطات وإرهاصات على الصعيد السياسي من الدول العظمى كـ امريكيا وغيرها، وما دفعه من ثمن باهض وما زال يدفعه جراء موقفه العروبي والقومي المشرف إزاء القضية الفلسطينية والكثير من القضايا العربية والاسلامية في المنطقة، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في توسعة الأزمات التي يتعرض لها على الصعد كافة، ناهيكم عن الأذية والأثار التي لحقت بـ الأردن جراء الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها التي غيرت الكثير في نمطية الخارطة السياسية والاقتصاية في العالم. 

ولا ننسى الحديث عن الأزمات الداخلية، فمن إنتشار الفساد الاداري والواسطة والمحسوبية، وتراكم الفساد المالي والسرقات لـ المال العام، ومرورا بـ فقدان الثقة وتوسع رقعتها بين الجماهير والسلطات، وصولا إلى الخيانات والتآمر على هذا الشعب ونظامه من قبل ثلة طامحين، ناهيكم عن قلة الموارد الطبيعية وشبه إنعدامها، وإرتفاع في معدلات الفقر والبطالة، وإزدياد في حجم المديونية الداخلية والخارجية، وحالة من شبة الكساد والركود الإقتصادي.
 
ولكن وبرغم كل ما يتعرض له الأردن من أزمات "داخلية وخارجية"، ما زال ونظامه السياسي وشعبه الطيب يقفون وقفة نخلة في وجه الرياح "النكباء" كما أسموها العرب قديما، ويقف وقفة المقاتل الوحيد في ساحة الوغى، المقاتل ذو المروءة الذي لا ينفك عن القتال في سبيل النصرة لـ قوميته وعقيدته ووطنه، مقاتل مؤمن بـ أن الأمان أساس قيام الحياة، والقانون أساس إستمرارها، والحرية أساس في توازناتها، والحب والسلام أساس في بناءها وتطورها، والعلم والأخلاق أساس في رقيها.
 
فقد رأيت على إمتداد مسيرتي المهنية، مقاتلون أشداء البأس في القوات المسلحة أشاوس لا يشق لهم غبار، يدافعون عن الأردن وشعبها بـ ارواحهم، ورأيت كيف يقاتل جهاز المخابرات العامة بـ العلم والتكنولوجيا أضعاف ما رأيتهم يقاتلون بـ السلاح دفاعا عن الأردن، ورأيت كيف يضحي الأبطال في جهاز مكافحة المخدرات بـ أرواحهم في سبيل إنقاذ حياة شاب بائس من عصابات منظمة، ورأيت كم هائل من الحقوق إستعادها أبطال جهاز الأمن العام لـ أصحابها البسطاء، ورأيت عظم الإنسانية والخير والسلام في التضحيات التي يقدمها أبناء مؤسسة الدفاع المدني وتلبيتهم لـ طلب المستغيث بهم بسرعة ودقة. 

وقد رأيت طاقات هائلة من العلم والتكنولوجيا منتشرة من شرق الأردن لغربها ومن شمالها لجنوبها، جامعات ممتدة في كل المحافظات يديرها علماء وأساتذة جامعيين في مختلف التخصصات العلمية والإنسانية والتكنولوجية، هم أساس البناء العلمي في الأردن، يعملون ليل نهار، مؤمنون بـ العلم ومدركين لـ حجم الحمل الكبير الملقى على كاهلهم، ولا ينفكون عن التضحية بما لديهم من وقت وجهد في إشباع حاجة طلبة العلم.

وقد رأيت التكريمات العظيمة التي حصل عليها الأطباء الأردنيين على مستوى العالم، ولمست حجم التطور العلمي الطبي في الأردن، وقرأت عن الانجازات الإنسانية الطبية التي حققها أطباء أردنيين في كل بقاع الأرض. 
وقد رأيت الشباب يقاتل بكل شرف ومروءة في ميادين الحياة، شباب يريد ان يخلع الجبال من أساسها لـ يجد مكانا لـ نفسه يسكنه، شباب لم يعد يتكل على إلّا على نفسه، فتجد مهندس الاتصالات يعمل في النهار ويعمل سائق لـ التكسي في الليل، وتجد طالب العلم يهرول مسرعا بعد إتمامه محاضراته الجامعية إلى مطعم او مقهى يعمل به، وتجد المرأة الأردنية وقد إتصفت بـ المحاربة القاسية فتراها عاملة في محطة وقود شامخة كالجبل. 

لنكن واقعيين، فـ الكثير من الأزمات القاهرة فرضت علينا، ولم تكن الأردن ولا نظامها ولا شعبها سبب فيها ورفضناها رفضا قاطعا، والان نرى الكثير من هذه الأزمات أصبحت هوامش على صفحات التاريخ، وتجاوزناها بحكمة النظام السياسي وبشجاعة الأبطال وطيبة ووعي الشعب الأردني، والدليل أننا ما زلنا شامخين في وقت ركوع الكثير من حولنا، طامحون في وقت يسود فيه البائسين على الساحة الإقليمية، صامدون على الجبهة في الوقت الذي إختبأ فيه الكثير بالخنادق. 

الإستقلال ليس بـ خروج المستعمر فقط، الإستقلال يكون بحجم تحملنا كـ "دولة ونظام سياسي وشعب" لـ حجم كبر الضغوطات والازمات والإرهاصات السياسية والاقتصادية التي تستهدفنا وتريد إشعالنا بنار حارقة، الإستقلال يكون بـ صبرنا على أزماتنا ومعالجتها بحكمة والخروج منها بـ أقل الخسائر، الإستقلال يكون بـ حجم ثقتنا بـ انفسنا وقوتنا في مواجهة كافة الأعاصير والعواصف، ويكون بـ قدر إنتاجنا وإعتمادنا على أنفسنا بعيدا عن الإتكالية.