محتسبة رمضان وشبيحته وعسسه.
د. مهند العزة
يتغير رمضان في مواعيد حلوله فهو يطوف على فصول السنة وشهورها جميعا، وتتغير معه طقوس الاحتفال والاحتفاء به تراخياً وشدةً بحسب تراخي وشدّة عزم الحكومات في التعامل مع الشدائد الاقتصادية التي ليست مثل رمضان تأتي مرةً كل عام، وإنما في كل عام تزداد تعمقاً وعمقاً حتى باتت ملمحاً من ملامح الحياة في دول بالكاد تملك شعوبها الدعاء بالفرج في غلواء الهرج والمرج.
ثمة ثابت لا يتغير في رمضان، وهو استبداد عدد لا يستهان به من الصائمين بل وحتى المتظاهرين بالصيام وسلوكهم العنيف اتجاه المفطرين غير المختبئين. هذا الاستبداد وذلك العنف يتجاوزان مجرد الموقف الشخصي إلى ممارسة التنمر والاعتداء اللفظي وربما الجسدي والتفاخر بهما بوصفهما «جهاداً في سبيل الله لقمع العصاة المجاهرين أو المبتلين غير المستترين ».
منذ وقت قريب استهل شهر رمضان بقرار أبوي يقضي بإغلاق محال بيع الطعام والشراب خلال النهار «تحت طائلة المسؤولية»، وهذا العام وفي كل عام ومع ثبوت الرؤية تؤكد الجهات المعنية في معظم الدول الإسلامية ثباتها على الثبوت وجمودها عند الجامد؛ فتقرن تهنئتها للجماهير بحلول الشهر الكريم بإطلاق التهديد والوعيد لكل من «ينتهك حرمة الشهر الفضيل»، دون أي كتالوج أو ملحق يبين الأفعال التي تندرج تحت هذا الوصف. والواقع أن غياب هذا الكتالوج ليس سببه الكسل أو التراخي لا سمح الله، وإنما لأن «جريمة انتهاك حرمة الشهر» تتحقق عند سادتنا وأسيادنا العارفين بظواهر الأمور دون بواطنها ولا عواقبها فقط بتناول الطعام أو الشراب أو التدخين علنا، أما ما عدا ذلك من مسلكيات مشينة مثل: النوم في المكاتب وفوقها وتحتها.. وتعطيل مصالح الناس بحجة التعب والإرهاق والتزويغ من العمل قبل انتهاء ساعات الدوام المسخوطة أصلا.. والتناطح والتباطح عند المفارق والدواوير وإشارات المرور.. ووصلات السب والقذف والشرشحة التي تطلقها الحناجر الناشفة والألسن المتيبسة بين مزدوجي «اللهمّ إني صائم ولو ما كان رمضان بس... »، فهذه في ما يبدو من وجهة نظر سادتنا من العادات الفلكلورية المتجذرة المستصحبة طوال العام وليست مما يمكن توصيفه أو تصنيفه ب«منهكات أو منتهكات الحرمة»، وربما كان في ذلك حكمة وبعد نظر من أسيادنا أصحاب الحكمة والقول الفصل، فلو اعتبرت تلكم المسلكيات من مفسدات الشهر ومعكّراته المعاقب عليها لوجبت الكفارة والكفالة على السواد الأعظم من أفراد المجتمع الصائمين ولضاقت بهم الزنازين، ولباتوا عبءً على دول تثقلها الأعباء وتحتاج للدعاء من كل صائم عند ارتشافه أول شربة ماء.
ثمة عنف ومعاملة مهينة وغير إنسانية ضد المفطرين غير المختبئين تمارسها جموع العامة التوّاقة لأي مناسبة تعبر فيها عن نزعتها الاستئصالية، فترى السباب واللعنات وربما الرفسات والركلات تطال كل من يتم ضبطه ب«الجرم المشهود متلبّساً بطعام أو شراب»، هذا العنف الجمعي يستمد قوته من رضى رسمي ضمني أو صريح قد يصل إلى حد مشاركة بعض رجال إنفاذ القانون فيه من خلال توقيع عقوبات خارج نطاق القانون ضد من يفطر في رمضان بقص شعره وربما توقيفه بأمر من الحاكم الإداري، والبركة في قوانين الطوارئ ومنع الجرائم سيئة الذكرى والذكر.
السؤال المهم في هذا المقام يتمحور حول الجذر الشرعي والتاريخي لهذه الممارسات الإقصائية ضد من قرروا ممارسة حقهم في أن لا يمارسوا شعيرةً بعذر أو بدون عذر. أما في فقه السنّة، فليس من حكم ثابت يقرر أن المجاهرة بالإفطار للمعذور أو لغيره تعتبر جريمةً تستوجب العقوبة، وكل ما هنالك هو فتاوى حسب الطلب واجتهادات من الولاة والخلفاء تتراوح بين الشدة والتخفيف بحسب الثقافة والفكر السائد. ففي العصر العباسي مثلا، حيث انتشار الفنون والتنوع الديمغرافي والديني ؛ لم تكن مسألة المجاهرة بالإفطار ذات بال، بينما كانت كذلك في عهد التدهور الثقافي والقيمي الذي خيم على المنطقة مع سيطرة الدولة العثمانية، حيث يقال أن عقوبة حبس المفطر وعدم إطلاق سراحه إلا بعد العيد التي كانت وما تزال دول عدة تمارسها رسمياً أو خارج نطاق المحاكمة والقانون؛ هي موروثة من تلك الحقبة المظلمة، والأمر نفسه ينسحب على موقف الدول التي أنتجت وصدرت الفكر الوهابي التي لا ترى حتى يومنا هذا ضيراً في حبس المفطر وجلده تعزيرا.
أما فقه الشيعة، فقد أبى إلا الذهاب بالتطرف والعنف إلى حده الأقصى في هذه المسألة، إذ جاء في أحد ععمدة كتب الفقه الشيعي وهو «كتاب الكافي» في جزئه الرابع ص. 103 ما نصه: "سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل شهد عليه شهود أنه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام، قال: يسأل هل عليك في إفطارك إثم؟ فان قال: لا، فان على الامام أن يقتله، وإن قال: نعم فان على الامام أن ينهكه ضربا”.
التناقض في المواقف المفاهيمية عند جمهرة دعاة التنكيل بالمفطر المجاهر ليس غريباً على بلطجية التطرف، حيث لا يؤيد معظمهم إكراه الناس على الصلاة في المساجد وإدخالهم فيها عنوةً حال رفع الآذان وإجبار التجار على إغلاق محالهم حال الإقامة كما كان يحدث حتى وقت قريب في السعودية، مع أن هؤلاء يعلمون أن حكم ترك الصلاة أوضح وأشد من حكم الإفطار، حيث أن الراجح عند الحنابلة ومن سار على خطاهم وورث فقههم أن تارك الصلاة كافر قولاً واحداً سواءً كان تركه لها عن عدم قناعة أو تقاعصا، وعلى المستزيد مراجعة فتاوى ابن القيم وابن تيمية وعبد العزيز بن باز وغيره من «أعضاء هيئة كبار العلماء في السعودية» قبل أن يتبرؤوا من فتاواهم المتطرفة التي جلبت الخراب وأزهقت الأرواح وأنتجت أجيالاً من السفاحين باسم الدين.
في المقابل، ثمة سؤال جوهري متروك لجموع «ثوار ضد الإفطار» ليفكروا فيه إن كانوا يتفكرون، لماذا لا تخدش مشاعرهم «الرقيقة» ولا يتأذى حسهم «الهشّ المرهف» وعدد كبير منهم يعيش في دول غير إسلامية -لاذوا بها من ظلم أوطانهم- غالبية سكانها الساحقة لا تصوم وتفطر جهاراً نهاراً في رمضان؟ ماذا لو قررت تلك الدول حظر المجاهرة بتناول اللحوم ومشتقات الألبان أثناء الصيام المسيحي؟ ألن يلجأ «مرهفو الحس رقيقو المشاعر» هؤلاء إلى محاكم تلك الدول لإنصافهم لكون هذا القرار يتناقض مع حريتهم في الاعتقاد؟
يبدو أن مقولة "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين» باتت بلا طعم لكثرة ما لاكتها أفواه أفراد هانت عليها كرامتها وحرياتها فاستهانت كرامة وحريات غيرها، فما بالك إذا كان الافتئات على حرية الآخرين مدعوم بغطاء رسمي من خلال تشريعات وقرارات وتصريحات رسمية وممارسات مؤسسية تكرس الإقصاء وتخالف الدستور، أو بغطاء شبه رسمي يغض الطرف عن التنمر والعنف الذي يسعى ويسعد باقترافه محتسبة رمضان وشبيحته وعَسَسِه.